قبل أسابيع قليلة كتبت فى هذا المكان عن أن إصلاح العملية التعليمية يستلزم أولا وقبل كل شىء إصلاح حال المدرس أو المعلم، لأنه أساس هذه العملية، ومن دونه لن نكون قادرين على تطوير التعليم.
ما كتبته كان حصيلة آراء بعض علماء مصر المقيمين فى الخارج والمتخصصين فى التربية والتعليم، وذلك خلال مؤتمر «مصر تستطيع.. بالتعليم» الذى أقامته وزارة الهجرة فى الغردقة. بعدها فوجئت باتصالات من زملاء وأقارب ومعارف يتحدثون عن الواقع الأليم الذى يعيشه المعلمون.
أحد المسئولين قال لى: «علينا أن نكون واقعيين.. فلا يعقل أن يكون راتب المعلم فى المتوسط ألف جنيه، ثم أقول له لا تعطى دروسا خصوصية، أو أتعجب حينما يكون مستواه عاديا أو ضعيفا، وبالتالى فلا نتعجب حينما نرى هذا المعلم يعمل على توك توك بعد نهاية عمله المدرسى، حتى يحسن من دخله، وقد يقوم بنقل بعض تلاميذه وطلابه خلال عمله، فكيف يكون حاله وقتها، وأى صورة نرسخها عنه»؟!!.
معظم أقاربى يعملون فى مهنة التدريس.. وعرفت منهم الآتى:
مدرسة تعمل فى المهنة منذ عام 1983 واقتربت من الخروج للمعاش وراتيها لا يزيد على 3500 جنيه، وأخرى بدأت عام 1985 وراتبها أقل من 3000 جنيه، وثالث يعمل من 1992 وراتبه 2800، ورابع يعمل من 1997، وراتبه 2300 جنيه.
مدرسة قالت لى: «حصلت على ليسانس تربية عام ١٩٩٠ وأعمل بالتدريس منذ هذا الوقت، وراتبى لا يزيد على 2500 جنيه، وفى الريف فإن الدروس الخصوصية ليست كما يتصور كثيرون. معظم التلاميذ أقاربى، ولا أحصل منهم على مقابل، أو مقابل بسيط جدا، أو هدايا عينية مثل «فرخة أو جوز حمام!»، وبالتالى فالأحوال صعبة جدا»!!.
النماذج السابقة خريجو كليات تربية ومعينون رسميا ومؤمن عليهم، لكن هناك شريحة أسوأ حالا بمراحل، هم متعاقدون فقط، ومرتبات بعضهم تنخفض إلى 650 جنيها فقط.
فماذا أفعل بهذا المبلغ، وأنا صرت المسئولة عن الإنفاق على البيت لأسباب يطول شرحها؟!».
هذه المدرسة سألتنى: ماذا تتوقع من معلمة تتلقى هذا الراتب؟!
القصص فى هذا الشأن كثيرة، وبعضها كنت أتصور أنه ينتمى إلى عالم الخيال، ثم ثبت أنه حقيقة.
هل نلوم هذه الحكومة أو الدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم على هذا الواقع المرير؟!.
الأمانة تقتضى القول إنها ليست المسئول الرئيسى، والمشكلة متراكمة منذ سنوات طويلة، ولا ينبغى أن ننظر للأمر باعتباره صراعا بين الأبيض والأسود، بل هناك لون رمادى غالب.
هل يحتاج المعلمون إلى تحسين وضعهم المالى؟!
الإجابة: نعم ونعم ونعم، لكن هل تملك الحكومة فائضا لتعطيه للمعلمين؟ الإجابة هى: لا ولا ولا.
النظر للموضوع بجدية سيخبرنا أن هناك فئات كثيرة فى مصر مظلومة جدا، بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية الظالمة والخاطئة جدا طوال حكم حسنى مبارك، الذى أدخل العشوائية إلى كل المجالات تقريبا من الإسكان إلى التعليم ومن الصحة إلى النقل.
كنت قد حضرت قبل أقل من شهر ــ بدعوة من الدكتور محمد الباز رئيس مجلسى الادارة والتحرير لصحيفة الدستور ــ ندوة مهمة للدكتور طارق شوقى، ونقلت له هذه الهموم، وضرورة البحث عن طريقة ما لتحسين واقع المعلمين، وأن ترسل لهم الوزارة رسالة بأنها تعلم حالهم وتحاول تحسينه.
الرجل رد بالإيجاب، وأقر بكل ما سبق، وقال إننا بالفعل نحاول البحث عن وسائل لتحفيز المعلمين، لكن الإيد قصيرة والعين بصيرة والموازنة محددة ومحدودة.
هنا نعود إلى أصل القصة، وأتصور أننا ينبغى أن نعيد التفكير ونتخذ قرارا استراتيجيا بتحسين حال المعلمين مادمنا نريد النهوض بالتعليم، حتى لو جاء ذلك على حساب قطاعات أخرى، كما فعلت كل البلدان التى نهضت تعليميا. يمكننا البحث والتفكير فى وسائل مبتكرة لتحسين حال المعلمين، والعملية التعليمية بأكملها.
هذا موضوع شديد الأهمية والخطورة، لأن المدرس الذى يتقاضى 600 جنيه، أو ألف جنيه أو حتى ٢٠٠٠ جنيه، لن يكون قادرا على التركيز فى شرح الدروس أو التواصل مع تلاميذه أو حتى تشغيل التابلت، علما أن بعضهم قد لا يكون عارفا بتشغيل التليفون الجوال بطريقة صحيحة.. والحديث فى هذا الشان موصول.