تغيرت خريطة الواقع السياسى المصرى عما كانت عليه قبل أشهر قليلة. لم يعد الواقع المصرى ــ بمكوناته السياسية الأساسية ــ كما كان فى بداية عام 2009. فقد دخلت إلى الساحة القوى التى حركت موضوع الرئاسة بعد أن كاد مشروع التوريث يفرض نفسه ولا يجد من يتحداه.
الأمر المؤكد أن بزوغ أفكار جديدة عن ومن مرشحين للرئاسة، غير فكرتى التجديد للرئاسة الحالية لفترة سادسة أو توريثها، قد غيّر خريطة الواقع وأدخل خطوطا ومواقع جديدة بصورة شبه فجائية.. خاصة بما أحدثته الجدية التى تعامل بها الدكتور محمد البرادعى مع موضوع ترشحه للرئاسة منذ أن طرح اسمه حتى يوم عودته إلى مصر.. وفيما بين هاتين النقطتين الزمنيتين من أحاديث وتصريحات تفصيلية أدلى بها محددا شروط التغيير وسماته.
وحسب خريطة الواقع المصرى بعد هذا التغيير فإن شعب مصر يوشك على الدخول فى معركة فاصلة تتعلق بمستقبله، لأنها تتعلق بمستقبل الديمقراطية والحكم. فهو إما سيفرض اختياره للنظام من خلال دستور جديد وانتخابات رئاسية تحدد مستقبل الحكم.. وإما انه ــ الشعب ــ لن يستطيع أن يغير التركيبة القائمة، على الرغم من رفضه الأكيد لها وتطلعه إلى بديل ديمقراطى.
***
وليس خافيا على احد أن ما يفرض المعركة الوشيكة هو أن الأمور لم يعد من الممكن أن تبقى الوضع على حاله. على الرغم من أن النظام لا يريد شيئا قدر ما يريد أن يبقى الوضع على حاله، حتى وإن اضطر إلى إدخال تعديلات شكلية لا تمس الجوهر.
والمعركة الفاصلة الوشيكة تبدأ بالانتخابات البرلمانية المقبلة خلال أشهر. فهذه الانتخابات ستكون بروفة لما يأتى بعدها، وبالأخص انتخابات الرئاسة. فهى التمهيد لطرفى المعركة لكى يعبّر كل منهما عن مدى قوته من ناحية، وعن مدى استعداده من ناحية أخرى لتقديم تنازلات تتجه به نحو وسط افتراضى أو متخيل، بدلا من قبول النتيجة النهائية التى قد تقضى على تصوراته المستقبلية.
فى شأن الانتخابات البرلمانية المقبلة تساؤلات كثيرة لا مفر من أن تعطى نتائجها ــ أى نتائج هذه الانتخابات ــ إجابات محددة عليها. أهم هذه التساؤلات أربعة:
أولا: هل سيقبل الشعب ــ الناخبون ــ إقبالا حقيقيا على الإدلاء بأصواتهم لانتخاب من سيمثلونهم فى مجلس الشعب القادم؟ أم ان الشعب سيؤثر مرة أخرى التعبير عن رفضه مستمرا فى انتهاج أسلوب مقاطعة الانتخابات، فلا تتجاوز نسبة المقترعين 27 بالمائة، تزيد أو تقل قليلا؟
ثانيا: هل سيجد الشعب بين المرشحين من يمثلون آماله فى التغيير.. بمعنى هل تملك الأحزاب السياسية المسموح لها بخوض الانتخابات مرشحين وبرامج تستطيع أن تكون مقنعة للناخبين بقدرتها على جعل مجلس الشعب القادم برلمانا ديمقراطيا يملك إرادة الفعل؟
ثالثا: هل سيلجأ الحكم والحزب الحاكم إلى إضفاء طابع ديمقراطى ونزيه على هذه الانتخابات لينال ثقة الناخبين فى المرحلة التالية التى تهمه أكثر، وهى مرحلة الانتخابات الرئاسية، لعله ينال رضا الأغلبية عن مشروع التوريث؟ أم إن الحكم لن يستطيع أن يصلب عوده فى المرحلة الرئاسية ما لم يؤمّن لمرشحى الحزب الوطنى الفوز بأغلبية كبيرة باعتبار أنهم قاعدته التى لا غنى عنها لتمرير التوريث؟ وطبيعى أن قرار الحكم وسلوكه فى هذا الشأن سيتوقف على السؤال التالى:
رابعا: هل يقرر الحكم والحزب الحاكم تأجيل مشروع التوريث (الأمر الذى يعنى تلقائيا فترة رئاسية سادسة للرئيس مبارك) فى ضوء التحديات التى استطاعت وهى فى بداياتها ــ أن تطفئ أنوار هذا المشروع وتجبر القائمين على التخطيط له على التراجع داخلة فى فترة صمت لا احد يعرف إلى متى تطول؟
***
لقد دلت الفترة السابقة مباشرة على المعركة الوشيكة ــ مع دخول ملامح جديدة على خريطة الواقع ــ على أن ثقة النظام الحاكم بنفسه ــ بقوته وبقدرة ممثليه «المنتخبين» والمعينين ــ ليست بالقوة التى طنت به.
دل على هذا عدد من المظاهر المبكرة التى ظهرت نتيجة صعود مرشحين للرئاسة خلال فترة زمنية قصيرة يتمتعون بقدرات وخبرات قيادية وسياسية عالية. من بين هذه الظاهرة رغبة الحكم والحزب الحاكم فى أن ينسب إلى نفسه «انجازات» لم يكن له أى دور فى تحقيقها (كأس إفريقيا لكرة القدم!)، والانشقاقات العديدة التى دبت فى صفوف الحزب الوطنى، بعضها بسبب عدم ثقة بعضهم فى استمرار دورهم إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، وبعضها بسبب اختلاف المواقف من مشروع التوريث بعد التغيرات الأخيرة، وبعض آخر بسبب رغبة الحكم فى تقديم ضحايا من رجاله قربانا لقضايا الفساد بأشكالها المستفزة المتعددة.. الأمر الذى أوجد حالة من عدم الثقة بثقة الحكم فى عناصره التى خدمته وخدمها طويلا.
مع ذلك تبقى هناك ثوابت لا يمكن الشك فى أن الحكم يتمسك بها باعتبارها أسباب وجوده ومصدر قوته.. وفى مقدمتها نظام الاقتصاد الحر (الرأسمالية) بكل ما جره على الغالبية العظمى من الشعب المصرى من كوارث اقتصادية واجتماعية وأكثر، وفى مقدمها ــ على صعيد السياسة الخارجية ــ طبيعة العلاقات المصرية ــ الأمريكية والعلاقات المصرية ــ الإسرائيلية، وربما يكون الحكم قد اقنع نفسه بأن هذه الشبكة من العلاقات مع أعداء الأمس هى شبكة الأمان التى تحمى مصر من الحرب وكوارثها وتأثيراتها الخطرة، وبالتالى فإن الشعب المصرى راض بهذا الوضع ومقتنع بان البديل عنه هو 1967 أخرى وزيادة
. وبصرف النظر عن تأثير ذلك على دور مصر العربى القيادى، وبصرف النظر عما أوجده هذا الوضع من تبعات على العلاقات المصرية ــ العربية التى غيرت وضع مصر من البلد القائد فى النضال ضد الهيمنة الخارجية وضد الاعتداءات والاستعلاءات الإسرائيلية.
***
وهنا يصبح السؤال: هل يتحقق انتصار واضح وقاطع للشعب فى المعركة الفاصلة الوشيكة إذا ما تمكن الحكم من أن يحتفظ بهذين الأساسيين الداخلى والخارجى لسلطته وسلطانه؟.
سيحاول أنصار الحكم أن يؤكدوا أن العيب ليس فى الاقتصاد الحر، وانه إذا أمكن تخليص الرأسمالية من القيود التى تكبل حركتها يصبح الوضع فى حالة «ليس فى الإمكان أبدع مما كان». وسيحاولون ــ بالمنطق نفسه التأكيد بأن قوة الولايات المتحدة هى التى تفرض هذا الوضع، ولا قبل لمصر بتحدى الولايات المتحدة استراتيجيا أو سياسيا أو اقتصاديا. وفيما يتعلق بإسرائيل، فإن مصر قد اختارت بمحض إرادتها السلام استراتيجية لها، وهى تحترم هذا الاختيار وتكسب به احترام العالم. وسيؤكد أنصار الحكم أن أولئك الذين يطالبون بسياسة مختلفة مع إسرائيل ليسوا سوى أقلية من أصحاب الأفكار البالية.
وسيتجنب الحكم وأنصاره أى حديث عن علاقة قوية ــ بل سببية ــ بين التمسك بالرأسمالية نظاما اقتصاديا واجتماعيا والعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. فالحكم وأنصاره لا يودون أن يسلموا بحقيقة أن بين هذين الاتجاهين صلة تجعل من المستحيل القبول بأحدهما ورفض الآخر.
وسيتجنب الحكم وأنصاره أيضا أى حديث عن أزمة النظام الرأسمالى العالمية، خاصة فى الولايات المتحدة، وتراجعه فى دول عديدة فى أمريكا اللاتينية اقرب المواقع الجغرافية والتاريخية إلى الولايات المتحدة. وسيؤثر هؤلاء ألا يروا تراجع علاقات الدول الآخذة بنظام اشتراكى فى أمريكا اللاتينية مع إسرائيل ورفضها لسياساتها، ابتداء من طريقة التعامل الإسرائيلية مع الفلسطينيين والقضية الفلسطينية.
إن الخريطة الحالية للأوضاع اعقد وأكثر دقة فى تفصيلاتها مما حاولنا شرحه.. خاصة على الوجه الآخر المتعلق بقدرات الشعب المصرى على خوضها، بينما أحوال الأحزاب المعارضة ــ الممنوعة من أى اتصال جماهيرى مباشر ــ لا تمكنها من أداء دورها فى المعركة المقبلة على أحسن وجه.
مع ذلك لابد من أن نضع فى الاعتبار انه ما من مرة كانت فيها معركة فاصلة بين شعب وحكم، إلا وكان الحكم يبدو أقوى ممتلكا كل أسلحة البقاء.. أما فى النتائج فلم يكن الانتصار دوما حليف الأمر الواقع، فلم يكن الحكم منتصرا.