لا أنكر اقتناعى بأن لأمريكا دورا فى الثورات العربية المشتعلة فى شتى أنحاء العالم العربى، كاقتناعى منذ ربع قرن أن لأمريكا دورا فى انطلاق حركة الإصلاح التى شملت معظم أرجاء أمريكا اللاتينية. أقصد بالدور العديد من التدخلات عن بعد وعن قرب فى التأثير على توجهات وسياسات الأنظمة الحاكمة فى الإقليمين. يبدأ الدور فى الشرق الأوسط عند جهود أمريكا الحثيثة منذ عهد الرئيس بوش وقبله لتشجيع حركات الحقوق السياسية والاجتماعية ممثلة فى عدد من منظمات المجتمع المدنى. تضمن التشجيع دورات تدريب لشباب من الجامعات وخريجين جدد وأفراد الصف الثانى فى بعض الأجهزة الحكومية الحساسة كأجهزة الأمن. ولا شك عندى فى أن هذه الدورات خلفت علامات نراها فى العديد من سلوكيات أفراد وتيارات. وعلى الرغم من توافر نية التغيير لدى واضعى هذه البرامج الأمريكية فأنه فى كل مرة أوشك التغيير أن يحدث ساد تردد فى أوساط صنع القرار الأمريكى وظهر ارتباك واضح ومحرج.
باستثناء الموضوع الإسرائيلى تكاد تتشابه تفاصيل الدور الأمريكى فى إشعال الثورات الإصلاحية فى كل من الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، حتى إن الفارق الكبير فى المسافة الجغرافية بين كل من الإقليمين والولايات المتحدة، يجد تعويضه فى أهمية النفط ومعابره المائية وحاجة أمريكا الماسة إلى المطارات الاستراتيجية فى الشرق الأوسط. قد لا نكون قريبين من أمريكا لنهدد حدودها بالهجرة أو المخدرات أو حتى احتمالات الغزو والاحتلال، ولكننا قريبون من شرايين تضخ الحياة فى الجسم الأمريكى، وانسدادها، وهو ممكن، يكفى لإصابة هذا الجسم بالشلل.
إذا كان الدور الأمريكى واحدا فى الحالتين، فما الذى جعل أمريكا الجنوبية تسبق العالم العربى فى إطلاق ثورتها الإصلاحية؟. لقد أجبنا عن هذا السؤال فى مناسبات عدة وعقدنا من أجله لقاءات مع مسئولين ومحللين سياسيين كثيرين من أمريكا اللاتينية، وسنعود إليه حتما فى الأسابيع المقبلة عندما تنتهى مصر من إجراءات إزالة الفاسد والمعطوب وتطهير التربة والأجواء من فيروسات الاستبداد والتطرف، ونبدأ فى إطلاق المرحلة الثانية من الثورة، وهى مرحلة تشييد أبنية جديدة. ما يهمنا الآن هو أن نتابع عن قرب إنجازات حركة الإصلاح فى أمريكا اللاتينية، النتائج التى تحققت فى مجال الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية، وبصفة خاصة على صعيد استعادة كرامة الأمة ومكانة الدولة. ولن يقدر أهمية هذا الإنجاز تحديدا إلا من عاش متنقلا بين مصر وعالمها العربى وفضائها الأوروبى، أو رائحا وغاديا بين مصر ودول فى أمريكا اللاتينية، فهو الذى يلمس أكثر من غيره أهمية استعادة كرامة الأمة المصرية ومكانتها فى الوقت نفسه الذى تبذل كل الجهود الممكنة لإصلاح ما فسد فى أبنيتها السياسية والاقتصادية ومنظومة قيمها وأخلاقها.
دعونا لا نؤجل استكمال خطوات استعادة الكرامة خاصة وقد لمسنا فى كل مكان خارج مصر شعبية جديدة لها ولثوارها ودورها، وليكن واضحا أمامنا أن النقص فى إمكانات تنفيذ الإصلاحات الداخلية ليس سوى حجة استخدمتها قيادات النظام السابق لتبرير سياسات الاستسلام لهيمنات متعددة بعضها عربى وبعضها إسرائيلى وبعضها أمريكى. أتمنى ألا ينتصر تيار يؤجل الاهتمام بدعم أرصدة مصر الخارجية بحجة التركيز على الداخل، أو ينتصر تيار «دبلوماسية الإذعان»، باعتباره التيار الذى حكم مصر طيلة ثلاثين عاما أو أكثر، وخلف لمصر موقعا هزيلا وتركة من سياسات متهالكة وأزمات كبرى على طول حدودنا السياسية.
●●●
اخترت الكتابة فى موضوع الدور الأمريكى بينما كنت أتابع زيارة الرئيس باراك أوباما إلى ثلاث دول فى أمريكا اللاتينية، هى البرازيل وتشيلى والسلفادور. سألت: لماذا هذه الدول تحديدا، فجاء الرد بأنها الدول التى حققت إنجازات باهرة على طريق الانتقال من الاستبداد والتخلف الاقتصادى والاجتماعى إلى الديمقراطية والتقدم، ولأنها الدول التى تقدم كل منها نموذجا مختلفا فى رؤية المستقبل وفى طريق التنمية. اختارت واشنطن تشيلى وهى الثانية فى جدول الزيارة، لأنها حققت فترة غير متقطعة من السلام الاجتماعى وإعادة بناء الدولة وقضت على السلطات الاستثنائية التى احتكرت ممارستها قوات الأمن الداخلى بمباركة وتوجيه الحكام العسكريين. استطاعت شيلى خلال عهد السيدة باتشيليت أن يكون لها صوت مسموع فى العالم، وكان بالتأكيد أعلى وأكثر احتراما من صوتها عندما خضعت لحكومة الديكتاتور الفاسد الجنرال بينوشيه، ونجحت فى الجمع بين اقتصاد ليبرالى ومنفتح وتشريعات حققت عائدا مرتفعا من العدالة الاجتماعية. وبعد باتشيليت اختارت الجماهير الشيلية فى انتخابات حرة ونزيهة أحد رجال الأعمال ممثلا لتيار اليمين الإصلاحى وهو السينيور سيباستيان بينيرا Pinera، بمعنى آخر أنجز الشعب الشيلى انتقالا بسلام وهدوء من حكومة يسار إصلاحى إلى حكومة يمين إصلاحى مؤكدا بذلك نجاح ثورته ضد الاستبداد والديكتاتورية.
●●●
ومن تشيلى يتوجه أوباما إلى السلفادور التى اختارها لأنها حققت نموذجا ثالثا وهو التنمية باستخدام أفكار وآليات اليسار المعتدل. أراد أوباما أن يمد يد التشجيع ليسار مختلف تفضله أمريكا على يسار شعبوى وأقل اعتدالا يحكم فى فنزويلا والإكوادور ونيكاراجوا وبوليفيا وإلى حد ما فى الأرجنتين. إن مشكلة الولايات المتحدة مع هذه الدول الخمس التى تصنفها كدول يسار معتدل هى أنها أضافت إلى توجهها اليسارى إشارات وشعارات قومية تعكس نفسها فى السياسات الخارجية لهذه الدول كأنظمة مناهضة للتدخل الأمريكى ومحذرة من عودة الأمريكان للسيطرة على مقدرات القارة. مثال على ذلك خطاب رفائيل قوريا رئيس الإكوادور الذى ردد فيه عبارة «نعيش الآن فى أمريكا الجنوبية مرحلة الاستقلال الثانى والنهائى»، تعليقا على سياسات معظم دول القارة المناهضة لسياسات ومواقف أمريكا فى قضايا المناخ والتجارة وفلسطين ودعمها للانقلاب العسكرى فى هندوراس.
●●●
كان لولا دا سيلفا الرئيس السابق للبرازيل الرجل الأكثر شعبية فى العالم، حسب رأى الرئيس أوباما، ولكنه بهذا المعنى كان مزعجا للسياسة الخارجية الأمريكية، لأنه صار نموذجا للاستقلال عن الهيمنة الأمريكية.
من ناحية أخرى، أطلقت النهضة البرازيلية ونهضة القارة بشكل عام سباقا مفتوحا بين أمريكا والصين على الأسواق الناهضة فى أمريكا الجنوبية، ويبدو أن الصين بدأت تحقق فوزا وفرضت على واشنطن إعادة النظر فى سياساتها الاقتصادية فى القارة اللاتينية. من ناحية ثالثة، تجاسرت البرازيل فى عهد لولا دا سيلفا فتوسطت فى الصراع على إيران، وقدمت مثالا شجع دول القارة فى اتخاذ مواقف جسورة بالنسبة لفلسطين.
تريد واشنطن أن تطمئن، من خلال هذه الزيارة، إلى أن السنيورة ديلما روسوف الرئيس الجديد للبرازيل، لا تخفى طموحات من نوع طموحات سلفها وأستاذها لولا دا سيلفا، وسيحاول أوباما التأكيد على أنه يريد البرازيل قوية وناهضة ولكن ضمن الإطار العام للهيمنة الأمريكية، وليس خارج هذا الإطار أو معارضة له.
●●●
خلاصة الأمر، تريد أمريكا بهذه الزيارة للقارة أن تلحق بالاختراق الصينى للحد من سرعة انطلاقه. تريد أيضا إعلان تأييدها للسياسة المعتدلة التى تنتهجها البرازيل فى مواجهة يسار فنزويلا وشقيقاتها. تريد ثالثا استعادة أسطورة أوباما، حين قدم نفسه أول مرة كممثل لحركة الحقوق المدنية الأمريكية، وليس كرئيس لدولة تاريخها فى أمريكا الجنوبية غير مشرف.
عاد أوباما إلى أمريكا الجنوبية ليجنى ثمار عملية إصلاح سياسى شملت كل دول القارة تقريبا، حتى كوبا لم تتخلف عنها وان مارست الإصلاح ببطء شديد، ربما لأن الزعيم مازال حيا وإن كان بدون سلطة.
●●●
يشغل بال بعض الساسة الأمريكيين المهتمين بمستقبل أمريكا اللاتينية نفس ما يشغلهم بالنسبة لمستقبل العالم العربى. يشغلهم طبيعة الدور الذى يمكن أن تلعبه دولة كبيرة فى الإقليم إذا اجتمعت لديها بعض ظروف القيادة والتأثير فى المنطقة. استطاعت أمريكا بمساعدة كبيرة جدا من إسرائيل تحجيم دور مصر الإقليمى إلى حده الأدنى، واستجابت لهما قيادة سياسية مصرية فضلت أن تمارس دبلوماسية الإذعان والخضوع عن القيام بثورة إصلاحية داخلية تعكس نفسها فى سياسة خارجية نشطة فاعلة ومؤثرة. الفترة نفسها شهدت نهضة برازيلية شملت جميع أوجه الحياة وانتقالا حثيثا ومتدرجا نحو الديمقراطية والانفتاح السياسى، كانت نتيجتها ثقة فى النفس واعتزازا بالإنجاز نصبتا البرازيل دولة قائد إقليميا وصوتا مسموعا دوليا ودورا مسئولا أخلاقيا. هذا بالضبط هو ما نريد لمصر.