يهمنا كمصريين صورتنا فى الخارج ليس فقط لأننا نرى أن مصر «أم الدنيا» وأهم دولة فى الإقليم ومحور سياسات القوى العظمى فى الشرق الأوسط، ولكن أيضا لأننا كغيرنا من الشعوب التى مرت بتجربة الاستعمار نريد أن نثبت «للغرب» أننا على قدم المساواة بل وأفضل. لكن تحاول الأطراف المسيطرة على المجال العام منذ ٣٠ يونيو أن تثبت بتصرفاتها أن صورة «الأم» فى عيون «الدنيا» لا تهمها. لقد نسى من سيطروا بعد ٣٠ يونيو أن من جعل العالم يستعيد النظرة إلى مصر «أم الدنيا» هو الإعلام والمجتمع المدنى العالمى اللذين نشجب اليوم تآمرهما على مصر وتدخلهما فى الشئون الداخلية للبلاد بعد أن سبق أن علقنا عبارات إعجابهم بثورة يناير على مداخل ومخارج القاهرة. نسينا بعد ٣٠ يونيو أن ثورة ٢٥ يناير جعلتنا مصدر إلهام المطالبين بالحرية عبر أقطار الوطن العربى منذ أن تسلمنا الشعلة من تونس ومررناها إلى ليبيا ثم إلى سوريا واليمن مرورا بالبحرين ودون أن ننسى الحراك فى السودان والأردن وحتى عمان. نسينا أن أعلام هذه الدول رفرفت فى ميدان التحرير كما رفرفت الأعلام المصرية فى صنعاء وبنغازى وحمص. نسينا ــ أو تناسينا ــ بعد تجربة الإخوان المسلمين فى الحكم أن الثورة على القمع قيمة فى حد ذاتها وهى لا تتجزأ وقررنا أن مساندة الحق مرهون بنتيجة هذه المساندة وليس بأصل الحق ذاته.
•••
من المفارقات أن فترة ما بعد ٣٠ يونيو أثبتت أن تأثير الإخوان على علاقات مصر الخارجية ــ وبالتالى على صورتها ــ تعدى تأثيرهم وهم فى الحكم. لقد كانت أولى الرسائل التى بعثناها للخارج تفيد بأن مصر بعد ٣٠ يونيو ترفض الثورة على الفساد وقمع الحريات وتوغل الدولة الأمنية إذا أدت إلى حكم الإخوان المسلمين، وإذا كانت الولايات المتحدة لا تساند الأنظمة السلطوية الموالية إذا ما قررت سحق معارضيها لأنها تحرج واشنطن، فلنتجه نحو روسيا. منذ ٣٠ يونيو ومصر تطرد سفراء عرب وأجانب وتسحب سفرائها بشكل أصبح يعكس الاتجاه نحو السلطوية والشعور بالنقص بدلا من أن يعكس التحرر والاستقلالية التى يدعيها خطاب الدبلوماسية المصرية. اخترنا بعد ٣٠ يونيو أن ننتقل من معسكر الثورات العربية بقيادة تونس إلى معسكر الأنظمة المحافظة التى نددت «بأعمال الشغب» فى ٢٥ يناير ٢٠١١. رفضنا تسليم أفراد وأموال نظام القذافى وعائلته إلى السلطات الليبية فى نفس الوقت الذى نشجب رفض قطر تسليم قادة الإخوان إلينا، حتى إن ليبيا العربية الشقيقة تشكو الى مجلس الأمن تعنت السلطات المصرية. لقد شيطنا الثورات التونسية والسورية والليبية عندما تأسلمت وزدنا فوق الموقف السياسى انحدارا إنسانيا حينما ضيقت السلطات المصرية على نشاط المعارضين السوريين فى مصر مع أن منهم غير الإسلاميين ووصلنا إلى حد حمل السوريين على المغادرة فى قوارب غير شرعية إلى أوروبا أو عدم الاكتراث باضطرارهم العودة إلى مصيرهم فى بلاد الشام، ومع ذلك نشجب ونستغرب وندين التقارير الدولية عن تقاعس السلطات المصرية فى مواجهة ازدهار تجارة البشر فى سيناء.
أضف إلى ذلك كله أن الأجهزة الأمنية المصرية تنقض على رموز ثورة ٢٥ يناير من النشطاء والأكاديميين وأصبحت تهمة العمالة للخارج ثابتة فى ملفاتهم جميعا بما يصاحب هذه التهمة من تأجيج لمشاعر العداء للغرب الذى اتهمته سلطات وإعلام ٣٠ يونيو بأنه الموالى للإخوان المسلمين، وذلك فى نفس الوقت الذى بدأ فيه رجال أعمال مبارك و«الشخصيات العامة» التى أحاطت بنظامه جولاتهم فى الخارج من أجل تحسين صورة النظام الحالى. أصبحنا نعول على دبلوماسية وأموال الأشقاء فى السعودية والإمارات فى الدفاع عن الوضع السياسى فى مصر بعد أن كنا نعول على الدبلوماسية الشعبية التى تقودها جمعيات المجتمع المدنى والنشطاء ضد تدخل الأطراف الإقليمية والخارجية فى شئون مصر. ندخل منذ ٣٠ يونيو فى صراعات واهية مع وسائل الإعلام الخارجية التقليدية منها والحديثة ليس فقط مع الجزيرة ولكن مع صحيفة عريقة مثل الجارديان البريطانية بل ونتهمها بالتواطؤ مع الإخوان. وبعد أن كانت العدالة الاجتماعية فى قلب شعارات ثورة ٢٥ يناير، أصبح بعض سفراء الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية الرسمية بعد ٣٠ يونيو يسخرون من الخلفية الاجتماعية للإسلاميين أمام الدبلوماسيين الأجانب متناسين أن بعضا من هؤلاء الدبلوماسيين هم من أبناء نفس هذه الطبقة المتوسطة من الذين سمحت لهم الديمقراطية والحراك الاجتماعى فى بلادهم من الوصول إلى السلك الدبلوماسى بل وسدة الحكم.
•••
لقد قررنا وقف التعامل مع حركة حماس لأنها امتداد لنظام الإخوان المسلمين فى خطوة لم يقدم عليها نظام مبارك ذاته وكأننا لا نعلم جيدا أن حماس منظمة سياسية براجماتية تتعاون مع إيران كما تتعاون مع الجهاديين بل وتعاونت مع نظام مبارك. بل ولم تكن الأنفاق التى تخترق سيناء نحو غزة لتزيد إلا بتغافل نظام مبارك عنها لاستخدامها كورقة ضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل. ثم أعلنت السلطات المصرية عن منع عبور نشطاء أجانب إلى غزة فى ٦ مارس ٢٠١٤. ما الرسالة التى تبعث بها هذه الأفعال إلى الخارج عن موقف مصر من مقاومة الاحتلال الإسرائيلى وحركات التحرر وعن دور وأوراق مصر فى القضية الفلسطينية؟
عولت سلطات ٣٠ يونيو على القمع ومعاداة الحرية إذا ارتبطت بتمكين الإسلاميين وكل من يحمل شبهة الثورية بدلا من أن تعول على خروج المصريين ضد حكم الإخوان. لا عجب فى أن تكون عناوين الصحف الأجنبية والندوات وورش العمل فى الخارج تصف الوضع الحالى فى مصر بعبارات بعيدة كل البعد عن وصف مصر فى ٢٠١١. وللتذكير، فيما يلى عناوين بعض الصحف الأجنبية بمناسبة العيد الثالث لثورة يناير: لوموند الفرنسية: «مصر: ثلاث سنوات بعد الثورة: ذكرى بطعم مر»؛ لوفيجارو الفرنسية: «فى مصر.. الثورة تحتضر فى خضم الدم»، الجارديان البريطانية: «مصر: العودة للانتقام»، الباييس الإسبانية: «مصر: القمع والدستور»، نيويورك تايمز الأمريكية: «المصادمات تقتل ٤٩ مصريا فى عيد الثورة».
لو لم يدرك القائمون على السلطة حاليا أن تدهور صورة مصر خارجيا يضر بمصالحنا على المدى الطويل لما احتاجوا فى أكتوبر ٢٠١٣ إلى إبرام عقد بقيمة ٢٥٠ ألف دولار شهريا مع شركة جلوفر بارك الأمريكية من أجل تحسين صورة مصر، وذلك على غرار العقود التى أبرمها نظام مبارك ومن بعده المجلس العسكرى. ولو لم تكن السلطات تدرك خطورة تدهور صورتنا فى الخارج لما مولت وساندت وزارتا الخارجية والثقافة بعثات من «الشخصيات العامة» و«المثقفين» الذين يدافعون عن مصر ما بعد ٣٠ يونيو فى العواصم الأمريكية والأوروبية لكن دون التوارى عن انضمام رموز فاسدة من نخبة مبارك لهذه البعثات.
•••
إن السؤال الحتمى هو إلى أى مدى تستطيع السلطات المصرية إدارة التناقض بين خطاب الديمقراطية الذى توجهه للخارج ــ والذى يروجه دبلوماسيون محنكون بكل مهاره وبكل اللغات! ــ والسياسة القمعية وحشد الرأى العام ضد الأجانب فى الداخل برعاية الأجهزة الأمنية والإعلامية؟ وإلى أى مدى يذهب اعتقاد السلطات فى قدرتهم على السيطرة على الصورة الخارجية فى عالم أصبح فيه صانعو السياسة الخارجية يعتمدون فى تلقى المعلومات على القنوات غير الرسمية بقدر اعتمادهم على القنوات الرسمية؟
إن ثانى جملة فى دستور ٢٠١٤ تصرح بأننا «قلب العالم كله»، ولكن السؤال هو كيف نكون قلبا فى جسد تنبض أعضاؤه بالحرية من أوكرانيا إلى تركيا إلى سوريا وصولا إلى فنزويلا فى حين ترانا هذه الشعوب اليوم منحرفين عن درب الديمقراطية ومعادين لفكرة ثورات التحرر فى حد ذاتها؟