من المهم أن نتابع ما تكتبه الصحف الإسرائيلية عن العدوان الوحشى على غزة حتى نفهم كامل الصورة.
غالبية أخبار ومقالات وتقارير الصحافة الإسرائيلية عنصرية وفاشية ضد الفلسطينيين والعرب،لكن قلة منها تجنح إلى الموضوعية نسبيا.
ومن هذه الفئة الأخيرة ما كتبه يوعناه جونين فى 5 مارس الماضى بصحيفة هارتس ذات التوجه اليسارى. ونظرا لأهمية الفكرة سأعرض ــ بتصرف ــ غالبية المقال الذى جاء فيه: «وفقا لإحصاءات وزارة الصحة بغزة، التى تتقبلها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى حد كبير، فإن أكثر من 30 ألف قتلوا وأصيب أكثر من 70 ألفا حتى 5 مارس الحالى، يضاف إليهم المهجرون، وبافتراض أنه يوجد فى غزة 1.8 مليون نسمة، فإن إسرائيل ضربت وأخرجت من دائرة العمل ضدها نحو 8% من السكان وهذه النسبة هائلة، أما من ناحية السكن، فقصفت عشرات الآلاف من الشقق فى القطاع، إلى جانب تدمير هائل لشبكات الطرق، والصرف الصحى، والمياه، والكهرباء. مما سيؤدى لحالة من الانبعاثات، التى سيستغرق إصلاحها وقتا طويلا. كما يزداد الضغط على هؤلاء النازحين مع ازدياد جوعهم.. والنتيجة يوجد فى القطاع الآن نازحون وقتلى أكثر مما جرى فى النكبة الأصلية فى سنة 1948.. إن الجيش الإسرائيلى يقوم بتدمير القطاع بصورة منهجية».
يضيف يوعناة جونين أن الفقرة السابقة لم ترد فى مقال كتبته الكاتبة اليسارية عميرة هاس، بل جاءت فى منشور نشره صحافى البلاط شمعون ريكلين، حرفيا، فى منصة X (تويتر). لم يكن هدف ريكلين، لا قدر الله، التعبير عن تعاطفه مع عشرات الآلاف من القتلى، والنازحين، والبشر المعرضين للتجويع، بل التفاخر بهذه المعطيات، والرد على الكلام الذى يتحدث عن «التردد والمراوحة وعدم قدرة إسرائيل على الحسم فى غزة»، بحسب كلامه، أشار ريكلين، بتفاخر، إلى أن إسرائيل تمكنت حقا من تحقيق إنجازات إعجازية فى مجال التطهير العرقى والإبادة الممنهجة لغزة.
منذ أسابيع عديدة، يحذر كبار الساسة فى الولايات المتحدة وأوروبا إسرائيل من إلحاق الضرر بالأبرياء، ومن تفاقم الكارثة الإنسانية فى القطاع. هؤلاء لا يدركون أن التوثيق المفصل للمعاناة فى غزة يشكل قائمة إنجازات فى نظر أشخاص، مثل ريكلين، وأمثاله الذين يجلسون الآن فى سدة الحكم. نحن لا نتحدث هنا فقط عن اليمين الراديكالى: فالإيمان بـ «عدم وجود أبرياء فى غزة» والدعوة إلى الانتقام الذى لا يلوى على شىء، انتشرا فى صفوف قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلى.
يمكن الإشارة إلى أن ريكلين، على الأقل، لم يحاول إنكار المعطيات، وأنه لا ينتمى إلى فئة الذين «يجوعون الغزيين ويتباكون عليهم»، أولئك الذين يشعرون بقليل من عدم الراحة، عندما يرون المشاهد المرعبة للأطفال الرضع الذين يتضورون جوعا فى القطاع، لكنهم يهدئون من روع أنفسهم بحجة أن أطفال غزة جلبوا تلك الويلات لأنفسهم، وبأن إسرائيل لا تتحمل أى مسئولية عما يحدث.
تفيد التقديرات أن نحو 70 فى المائة من القتلى فى غزة من النساء والأطفال، لكن ريكلين لا يميز بين رضيع يبلغ من العمر شهرا واحدا وبين عنصر مسلح من «حماس»، فهو فخور بكل جثة من الثلاثين ألف جثة، وهو فخور أيضا بانهيار النظام الصحى، والتعطيش والتجويع، وتدمير شبكة الصرف الصحى، والفرار الجماعى للبشر. إن تغريدته، إلى جانب كونها تعكس لنا لمحة مزعجة عن روحه المظلمة، فهى أيضا دليل على أن الخراب الهائل والمتواصل فى غزة ليس مجرد نتيجة ثانوية لاستراتيجية ما، بل إن هذا الخراب هو نفسه الاستراتيجية.
ليس من قبيل الصدفة أن اليمين المجنون يعتبر أصعب الساعات التى تمر بها الدولة هى فترة نشوة وتعال: «إنه لزمن مذهل»، كما وصفه الصحافى اليمينى المؤيد لنتنياهو يانون مجيل فى مقابلة أجراها معه المذيع رونى كوبان قبل نحو أسبوعين.
إن هذه اللامبالاة بالأخلاق، وهذه الرغبة العارمة فى الانتقام، يستغلهما الأصوليون الذين يعيشون بين ظهرانينا، من أجل إنجاز هدفهم الحقيقى الذى حدده ريكلين من دون تردد: «تطهير» قطاع غزة من سكانه، سواء بالحديد والنار، أو بسبب انعدام الخيارات، وسواء بحد السيف، أو بفعل انتشار الأوبئة.
إن ما تراه دول العالم الطبيعية كارثة مروعة، كثيرون فى إسرائيل يعتبرونه إنجازا. وكلما تراكمت إنجازات هؤلاء، فإن المجتمع الإسرائيلى بأسره سينزلق نحو الهاوية.
انتهى مقال جونين وأهم ما جاء فيه أن تدمير غزة هو الاستراتيجية، وليس مجرد نتيجة ثانوية للقضاء على حماس واسترجاع الأسرى.