مئوية دستور 1923 - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مئوية دستور 1923

نشر فى : الإثنين 24 أبريل 2023 - 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 24 أبريل 2023 - 9:25 م
استفاق المصريون يوم 19 أبريل عام 1923، على صدور دستور، يحل محل، ما كان يعرف حينها، بالقانون النظامى رقم 29 لسنة 1913. وقد أشرفت على وضع ذلك الدستور، لجنة مكونة من ثلاثين عضوا؛ تزعمها عبدالخالق باشا ثروت، وضمت ممثلين عن الأحزاب السياسية، والزعامات الشعبية، وقادة الحركة الوطنية. كما مُثلت فيها مختلف طوائف الشعب وقطاعاته، علاوة على الأزهر، والكنيسة، وحاخام اليهود. ونص هذا الدستور، على أن يكون نظام الحكم فى مصر ملكيا وراثيا، ذا سمت نيابى.
لم يكن دستور 1923، أول وثيقة دستورية تعرفها البلاد. ففى عام 1837، كانت مصر على موعد مع أول نص ذى طابع «شبه دستورى». فوقتذاك، أصدر، محمد على باشا، «قانونا أساسيا»، عرف باسم «السياستنامة». وبمقتضاه، تم تأسيس بعض الدواوين الجديدة، وتنظيم عملها، وتحديد اختصاصاتها. بيد أن هذا النص، وإن مثل انعكاسا لشغف، محمد على، بمجاراة التطورات السياسية والمؤسسية العصرية فى أوروبا، حينئذ، لم يرقَ إلى مستوى الدساتير الحديثة. بحيث يضمن قيام دولة مؤسسات، لا تتمحور حول شخص الحاكم، بقدر ما ترتكن على سيادة القانون، ومساواة المواطنين جميع أمامه، فضلا عن توازن السلطات، والفصل بينها. وفى العام 1879، صدر الدستور المكون من 49 مادة، بعدما عُرِض على مجلس النواب، حيث اضطلع الأخير بدور الجمعية التأسيسية، فى غياب الخديوى إسماعيل، الذى كان يكابد، حينها، إجراءات عزله. وقد نص ذلك الدستور، على منح مجلس النواب حق التشريع، مع اشتراط موافقته على أى قانون. وفى 7 فبراير سنة 1882، أجبرت الثورة العرابية الخديوى توفيق على إصدار دستور يحل محل دستورعام 1879، فيما اعتبرمحاولة متواضعة لإقامة نظام ديمقراطى، وتأكيد عدم تبعية مصر للدولة العثمانية، ودعم المساعى الوطنية لإقرار سيادة البلاد وإعلان استقلالها. وقد كفل هذا الدستور، إنشاء مجلس للنواب، وتبيان العلاقة بينه وبين الحكومة والخديوى، عبر ضمان رقابة ذلك المجلس، الذى يمثله مجلس النظار، على عمل الحكومة أو الوزراء. كما نص على أن يأتى أعضاء المجلس بالانتخاب. لكن يؤخذ على هذا الدستور، أنه عكس توجهات الخديوى توفيق ورغبته فى السيطرة على مقاليد الحكم. كما لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى الضمانات المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية للمواطن.
منذ إرهاصاتها الأولى، ارتبطت الدساتير المصرية بالانتفاضات الشعبية، والثورات الوطنية. حيث جاء دستور 1982، نتاجا للثورة العرابية عام 1881؛ والتى تعتبر أول حركة تَحرُّر وطنى مناهضة للاستبداد، فى تاريخ المنطقة الحديث والمعاصر، حيث التأمت تحت مظلتها، قطاعات وطنية شتى، على رأسها طبقة الأعيان وكبار المُلاك، مع الضباط المصريين فى الجيش ضد الخديوى. وانبلج دستور 1923 من رحم ثورة 1919، التى كانت أول ثورة شعبية حقيقة تعرفها المنطقة، إذ مثلت ذروة المشروع الوطنى التحررى، خلال تلك الحقبة من تجربة الحداثة المصرية. حيث جسدت مرحلة تأسيس جذرى واسع للوطنية المصرية الحديثة، تضمنت دمجا، من أسفل، للسكان المحليين داخل بنية تلك الوطنية، خلافا للدمج السلطوى من أعلى، الذى قام به، محمد على وأبناؤه، وشابته إشكاليات عديدة. حيث قدَّمت مصر بوصفها دولة دستورية يحكمها عقد اجتماعى ديمقراطى، ويعيش المصريون فيها بوصفهم مواطنين أحرارا، لا رعايا. وأتى دستور 1956 عقب ثورة يوليو 1952، فيما ظهر دستور 1971، إثر ما أسماه الرئيس السادات «ثورة التصحيح»، التى أطاح خلالها بما كان يعرف بمراكز القوى. وأثمرت ثورة يناير 2011، دستور العام 2012، بينما كان دستور 2014، أحد إنجازات ثورة 30 يونيو 2013.
ترتئى طائفة من المعنيين، أن التجارب السياسية الغربية قد طبعت بصماتها على دستور 1923. فبدلا من أن تتخذ اللجنة التأسيسية، التى عُهد إليها صياغته، من خلاصة التجارب الدستورية المصرية السابقة، إطارا مرجعيا لها؛ لجأت إلى بعض الدساتير الأوروبية، وخاصة الدستور البلجيكى. فعكفت على دراستها، واستلهام روحها، توطئة لصياغة مواد الدستور المصرى على هديها. بعد أن شذبت ما اقتبسته، كيما يتلاءم مع رغبات الملك، ومضمون تصريح 28 فبراير 1922. ثم تولت اللجنة التشريعية لوزارة «الحقانية»،العدل الآن، تعديل المشروع لتوسيع سلطات الملك، على حساب حقوق الشعب.
رغم اعتباره نقلة نوعية فى تاريخ مصر السياسى، بمقاييس زمانه؛ يطيب لرهط من اختصاصيى القانون الدستورى، المجادلة بشأن تعبير دستور 1923 عن الإرادة الشعبية الوطنية. فثمة من يراه معبرا عن المصالح الضیقة للطبقة، التى صاغته؛ متجاهلا شرائحها الدنیا، والجماهیر، التى لعبت الدور الرئیس والحاسم فى ثورة 1919. فمن جهة، عبر الدستور عن توازن سیاسى، لعبت فیه قوى القصر والإنجلیز، وكبار ملاك الأراضى الدور الأبرز. ومن جهة ثانية، جاءت مبادرة إقامة حكم نيابى دستورى فى مصر، من جانب السلطات البريطانية فى المذكرة التفسيرية، التى قدمها المندوب السامى البريطانى إلى السلطان، فؤاد. فقد أرفق تصريح 28 فبراير 1922، الذى اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، مع التحفظات الأربعة الشهيرة، التى جعلت ذلك الاستقلال شكليا. إذ نص البند العاشر من تلك المذكرة التفسيرية، على أن «إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة، فى حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية، يرجع الأمر فيه إلى السلطان والشعب المصرى». ما يعنى، ضمنا، ضرورة قيام حكم نيابى يقترن بقبول تصريح 28 فبراير. ذلك أن قبول السلطان للتصريح، يعنى التزامه بإقامة نظام برلمانى دستورى. ولعل هذا ما يفسر محاولات الملك التملص من إصدار الدستور فيما بعد. كما يفسر الأسلوب الذى تم به إعداده. فقد كان السلطان، أحمد فؤاد، الذى أمسى ملكا، يسعى لتنفيذ المبادرة البريطانية، بالشكل الذى لا يكبل ميوله الأوتوقراطية. مما انعكس على صياغة الدستور ذاته. فقد اتجه الملك إلى تشكيل لجنة إدارية لوضع الدستور، ولم يعهد به إلى جمعية وطنية تأسيسية منتخبة تمثل الأمة.
بدلا من أن يطرح الدستور للاستفتاء العام قبل إصداره، جاء بأمر ملكى، ليتخذ صورة «المنحة الملكية» للشعب، ومن ثم كان من حق الملك استرداد ما منح وقتما شاء؛ وهو ما حدث بالفعل فى الانقلابات الدستورية الشهيرة. وأدت السلطات الهائلة التى خص الملك نفسه بها فى الدستور، إلى إضعاف التجربة النيابية والإضرار بالدستور، فاتخذ القصر من أحزاب الأقلية أدوات يستند إليها فى حكمه. وتم تزييف الانتخابات، بعدما تلاشى مبدأ الإرادة الحرة للناخب فى اختيار من ينوب عنه ويمثله فى المجلس النيابى. ليتم بذلك القضاء على مبدأ «الأمة مصدر السلطات»، الذى يمثل محور الليبرالية. وبذلك لم يحقق دستور 1923، غاية المصريين المتمثلة فى بلوغ حياة ديمقراطية سليمة.
تعددت صور انتهاك الملك وأحزاب الأقلية لدستور 1923، وبلغ ذلك مداه عام 1930. عندما كلف الملك، فؤاد الأول، إسماعيل باشا صدقى، بتشكيل حكومة من حزب الأحرار الدستوريين، رغم حصول حزب الوفد على الأغلبية الساحقة فى البرلمان. وانتهى الأمر بإلغاء دستور 1923 فى 22 أكتوبرعام 1930، وحل البرلمان، وإعلان دستور جديد.
وهو المعروف بدستور 1930، أو «دستور صدقى»، الذى استمر العمل به لمدة خمس سنوات، كانت بمثابة نكسة للحياة الديمقراطية. وقد أدى قيام الشعب بالعديد من التظاهرات الاحتجاجية إلى إجبار الملك، فؤاد، على إلغاء هذا الأخير بمقتضى الأمر الملكى، الصادر فى 19 نوفمبر، برقم 142 لسنة 1935. ثم العودة، فى الشهر التالى مباشرة، إلى العمل مرة أخرى بدستور 1923، الذى ظل قائما، إلى أن تم إسقاطه فى 10 ديسمبر 1952، بموجب أول إعلان دستورى، من لدن مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952.
هكذا إذن، كرس دستور 1923، الفجوة بين النص والتطبيق. فقد كان إلى المثالية النظرية أقرب؛ جراء تاثره بدساتيرعريقة فى ديمقراطيات أوروبية تاريخية راسخة. بيد أن الواقع السياسى المصرى، ظل منبت الصلة عن القواعد والأطر الدستورية. إذ بقيت نصوص الدستور حبيسة الأوراق، ومجافية للتطبيق العملى. وهى المعضلة، التى غدت صنوا وديدنا لكافة الدساتير المصرية اللاحقة، مثلما شكلت أحد المعوقات التى حالت دون بلوغ المصريين للديمقراطية الحقيقية.
التعليقات