قد لا ينتبه البعض إلى الخبر ذاته.. وقد لا ينتبه الكثيرون إلى دلالته، ومن المؤكد أن النخبة الحاكمة فى إسرائيل لن تستلهم هذه الدلالة لتغيير المسار الذى تقود دولتها فيه.
الخبر نشر يوم الجمعة الماضى، وجاء فيه أن استطلاعا للرأى العام الإسرائيلى أظهر أن ثلث الإسرائيليين سيدرسون فكرة الهجرة من البلاد إذا امتلكت إيران سلاحا نوويا.
هكذا والمسألة كلها لا تزال فى طور التكهنات، والحكومة الإيرانية تؤكد المرة بعد المرة أنها لا تخطط لإنتاج سلاح نووى، والوكالة الدولية لا ترصد أكثر من بعض الأسئلة التى لم تتلق عنها إجابات، وتنفى قرب تصنيع ذلك السلاح، وهو ما أكده آخر تقرير دقيق لمجمع المخابرات الأمريكية فى الصيف الماضى أيضا.. هكذا أيضا والولايات المتحدة تعلن عزمها الأكيد على منع إيران من إنتاج الرءوس النووية بالطرق السياسية إن أمكن.. أو بغيرها إذا تطلب الأمر وتلتزم فى الوقت ذاته بالدفاع عن إسرائيل ضد إيران أو غيرها، بل هكذا.. والإسرائيليون أنفسهم يملكون منذ عشرات السنوات أكثر من مائتى رأس نووى كافية لردع أى قوة تفكر فى استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد إسرائيل.. فإن ثلث الإسرائيليين مستعدون لاحتمال النزوح من البلاد.. فكم منهم ينضم إلى موكب النازحين المحتملين هذا إذا أنتجت إيران فعلا السلاح النووى وأجرت تجربة ناجحة عليه؟.
الإجابة المؤكدة أن العدد سوف يرتفع إلى أكثر من النصف، وربما يزيد على ذلك بما يفوق التوقعات.
ولكن نفهم دلالة هذا المؤشر التى سبقت الإشارة إليها، والتى سنفصلها فيما بعد، فإننا سوف نستخدم ما يسميه علماء المنطق مفهوم المخالفة، وطبقا لهذا المفهوم نتساءل: لماذا لم يطرح هذا الاحتمال أصلا ليجرى حوله استطلاع للرأى فى أى دولة أخرى فى المنطقة مثلما حدث فى إسرائىل؟ فلماذا لم يدر بخلد أى جهة فى مصر أو السعودية أو تركيا أو باكستان أن تتساءل، وتستطلع رأى المواطنين: هل يفكر أحد فى النزوح من أى من هذه البلدان خوفا من احتمال حيازة إيران سلاحا نوويا؟.
بوضع حالة طرح السؤال فى إسرائيل، وعدم وجوده أصلا فى أى من الدول الأخرى فى المنطقة، يظهر الفارق بين نظرة المواطن الإسرائيلى إلى دولته وإلى مستقبله فى المنطقة، ونظرة المواطن المصرى أو السعودى أو التركى أو الباكستانى إلى دولته، وإلى مستقبله فى المنطقة.
ودون تعسف فى استخراج الدلالات فمن الواضح أن الإسرائيلى لا يزال يرى نفسه غريبا عن المنطقة وعليها، ولا يزال يرى فى دولته مشروعا استيطانيا استعماريا، رغم كل ما يقال عن نجاح المشروع الصهيونى، وتضحيات الرواد الأوائل، الذين جاءوا وهم يعرفون أنهم سيقاتلون فيقتلون، ويقتلون من أجل إيجاد مكان تحت الشمس للشعب اليهودى وفقا للعنوان الذى اختاره بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالى لكتابه المدافع عن حاجة الإسرائيليين لنفس حقوق الشعب الفلسطينى فى أرضه ودولته، ومن الممكن هنا أن نضيف أن تلك الروح الريادية قد ضعفت بانقضاء الجيلين الأول والثانى من المستوطنين الصهاينة، وتلك على أى حال نتيجة طبيعية أو حتمية فى ظل المجتمعات والمذاهب، فما بالنا بالمذاهب الاستعمارية التى مهما ادعت أنها على حق يدرك معتنقوها فى قرارة أنفسهم أنهم معتدون، وإلا ما كانوا بشرا، ولكنهم بشر يقمعون ضمائرهم بأطماعهم وقوتهم.
إذا تركنا مفهوم المخالفة، إلى مفهوم الموازنة، وتساءلنا: كم من الإسرائيليين سينزحون أو سيفكرون فى النزوح إذا امتلكت مصر أو سوريا أو أى دولة عربية قريبة سلاحا نوويا؟ وهذا بالطبع سؤال افتراضى على سبيل الجدل.
قياسا على حالة إيران فإن كل الإسرائيلين فى الحالة الأخيرة سوف ينزحون على أغلب الظن، وليست هذه الإجابة سوى تأكيد إضافى على سيطرة عقلية ونفسية المستوطن الأجنبى على المواطن الإسرائيلى، ولهذا طرح السؤال هناك، ولم يوجد أصلا ــ كما سبق القول ــ فى أى من دول المنطقة، بما فيها الدول الصغيرة نسبيا مثل كل الإمارات الخليجية، فهذا استقر فى وجدان وضمير المواطنين أبا عن جد أن هذه هى بلادهم، وأوطانهم النهائية التى لا بديل عنها، ولا تفكر فى غيرها مستقبلا للمواطن، وأبنائه وأحفاده، ومقرا لمقابر ورفات أجداده.
المعنى النهائى.. أو الدلالة النهائية لهذه المقارنة هى أن الإسرائيليين لا مستقبل لهم فى هذه المنطقة كدولة إلا إذا تخلوا عن عقلية ونفسية المستوطن المستعمر، ولن يتأتى لهم ذلك إلا بالاندماج الكامل فى هذا الإقليم، أى أن يصبحوا جزءا منه سياسيا ونفسيا مثلما هم جزء منه جغرافيا..
ونحن لا نطالبهم بالاندماج فى التخلف والاستبداد كما يدعى مناهضو الاندماج من غلاة الصهاينة ورثة تقاليد العنصرية والاستعمار، ولكنا نطالبهم بالاندماج السلمى الذى يساعد على إحداث تفاعل يؤدى بدوره إلى صنع التقدم الاقتصادى والسياسى والثقافى على امتداد المنطقة كلها، ولكى تقبل إسرائيل لدى شعوب المنطقة، وليس عند حكوماتها فقط، فإن عليها استحقاقات كثيرة، وأولها بالطبع التسليم بحقوق الشعب الفلسطينى دون مراوغة، واستهلاك للوقت، فهذا وحده هو الذى يثبت للشعوب ــ قبل الحكومات ــ أنه لم تعد هناك تبعية لفصول السياسة الاستعمارية الموفرة للوقت المناسب مثل الترانسفير أى التطهير العرقى للفلسطينيين من الضفة الغربية على وجه الخصوص تمهيدا لضمها وإقامة إسرائيل الكبرى.
من الاستحقاقات المطلوبة من إسرائيل حتى تقبل فى المنطقة من جانب شعوبها بالأساس..
التوقف عن ترويج أسطورة النقاء العرقى كالتزام مبدئى من جانب الفلسطينين ومن جميع الدول العربية والإسلامية بما يسمى بـ«يهودية إسرائيل» بهدف إسقاط حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى ديارهم طبقا لقرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولى، وإذا كان الصهاينة يدافعون عن حقهم المزعوم فى السكن والإقامة فى أى مكان فى الضفة، فمن باب أولى الاعتراف بحق الفلسطينى فى السكن والإقامة فى منزله أو منزل أبيه، أو جده فى أى مدينة أو قرية داخل إسرائيل نفسها.
إن التمسك بفكرة النقاء العرقى ــ التى هى بلا جدال فكرة عنصرية بغيضة ــ سوف يرتب فى المستقبل سياسات عدوانية استعمارية تهدد السلام إذا تحقق، فإلى جانب إسقاط حق العودة، فهى سوف تملى على الحكومات الإسرائيلية سياسات تمييزية ضد المواطنين غير اليهود ــ مثل عرب الجليل ــ للحفاظ على ذلك النقاء العرقى، والخطط جاهزة على الأوراق، ولكنها فقط تنتظر الظرف المناسب كتلك الخطة التى وضعها فى نهاية السبعينيات «إسرائيل كوتينج» مدير عام وزارة الداخلية الإسرائيلية فى حكومة مناحيم بيجين لتهجير عرب الشمال الإسرائيلى قسرا حفاظا على يهودية الدولة، ومثل خطط الترانسفير من الضفة الغربية إلى الأردن التى سلفت الإسارة إليها.
ولا تقتصر الاستحقاقات المطلوبة من إسرائيل للاندماج فى الشرق الأوسط بقبول من شعوبها على إقرار الحقوق العادلة للشعب الفلسطينى، ولكن هناك استحقاقات تطالب بها جميع شعوب المنطقة، إذ ليس مقبولا، أو لن يكون مقبولا إلى الأبد لدى هذه الشعوب أن تحيا تحت الهيمنة الاستراتيجية الإسرائيلية المترتبة على التفوق الكاسح فى القوة العسكرية، ولذا فعلى إسرائيل أن تقرر فى الوقت المناسب الانضمام إلى نظام للأمن والتعاون الجماعى يرفع سيف التهديد من على رقاب الجميع بمن فيهم الإسرائيليون، والعرب، والإيرانيون، والأتراك.. إلخ.
من الواضح للجميع أن إسرائيل تسير فى الاتجاه المعاكس تماما لكل هذه الاستحقاقات، والمثير أن هذا يحدث باتفاق شبه إجماعى بين الشعب والنخبة، والمثير أكثر أن هذا يحدث من الجيل الثالث الذى كان مرشحا لإنتاج شخصية وطنية إسرائيلية عادية متحررة من سطوة الأيديولوجية الصهيونية، لكن ها هو ذا الاستطلاع الأخير يظهر أن تلك العقلية هى بعينها ما يغلق أبواب المستقبل أمام إسرائيل، فإذا جاءت حقبة أوباما بما يسمى إنهاء العلاقة الأمريكية الخاصة مع الصهيونية أيضا وليس مع إسرائيل، فإن النخبة الحاكمة هناك عليها أن تفيق قبل ضياع فرصة جديدة.