السطور التالية محاولة لقراءة معطيات المشهد السياسى الحالى فى مصر، وتحليلها، والتنبؤ بتطوراتها، دون موقف مسبق، كما لو أن مراقبا خارجيا محايدا هو الذى يكتبها، بهدف الفهم المجرد من التمنيات، أو الأوهام وخداع النفس، فقد عاد مشروع تعديل الدستور الحالى للتداول بقوة، وإن كان بصفة غير رسمية حتى الآن، ليس فقط من خلال الكتابات الصحفية والأحاديث التليفزيونية، والتدوينات الإلكترونية، ولكن فى أروقة برلمانية وحزبية كذلك.
من المفهوم أن جوهر التعديل المقترح هو إطلاق مدد شغل المنصب الرئاسى، المقيدة فى الدستور الحالى بمدتين، مع إمكان إعادة النظر فى عدد سنوات المدة الرئاسية الواحدة، لتزيد على أربع سنوات، ويجب أن يكون مفهوما أيضا، وبلا مواربة أن النظام يمتلك أدوات وإمكانيات تمرير المشروع، وذلك قياسا على السوابق المشابهة، فى عهدى الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك، وقياسا كذلك على قدرة النظام الحالى على تمرير أو فرض اتفاقية تيران وصنافير، وتعويم الجنيه، وزيادة أسعار الطاقة والوقود، وتقديم الفريق سامى عنان إلى المحاكمة، وغير ذلك من القرارات والسياسات واسعة التأثير، وقوية الصدى.
من ناحية أخرى، وقياسا على سوابق السادات ومبارك، فإنه ما من مرة أدخلت تعديلات دستورية متعلقة بمنصب الرئاسة، إلا وأخرجت فى شكل صفقة تقدم شيئا للمجتمع والقوى السياسية فى المقابل، فلكى يعدل السادات دستور 71 بما يسمح له بالبقاء رئيسا «مددا أخرى»، فإنه أدخل ضمن التعديل النص على الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الرئيسى للتشريع، وكانت الحسبة وقتها مغازلة العواطف الدينية لأغلبية المجتمع، وتكتيل تيارات الإسلام السياسى لتأييد تعديل الدستور، بصوت مسموع بقوة لليساريين والليبراليين، الذين كانوا يعارضون هذا التعديل الدستورى.
ولكى يمرر الرئيس مبارك خطة توريث السلطة لنجله، فى انقلاب سياسى أخطر من أى انقلاب دستورى، فإنه عدل الدستور فى عام 2005، ليأتى الرئيس إلى المنصب بالانتخاب بدلا من الاستفتاء، موحيا بتحول تاريخى يستجيب لمطلب شعبى عميق وعريق، قبل أن يتضح أنه أخذ بشماله ما أعطاه بيمينه، حين تضمن التعديل شروطا تحرم المرشح الذى لا يسانده النظام من أية فرصة، أو ظل لفرصة.
الشاهد فى الحالتين السابقتين أن تعديل الدستور لمصلحة الرئيس القائم يحتاج إلى مسوغ للاقناع، يضاف إلى امتلاك النظام لأدوات وإمكانيات تمرير أو فرض ما يريد،.. هذا المسوغ يتمثل فى الاستجابة لبعض المطالب الديمقراطية للقوى السياسية، ولبعض الأمانى العزيزة على الرأى العام، حتى إذا كان الكثيرون مقتنعين بعدم وجود بديل، وبحرج الظروف الداخلية والخارجية، بغض النظر عن أسباب عدم وجود بدائل، وعن المبالغات فى تصوير حرج الظروف.
وفى حالتنا الجديدة هذه فإن الطلب على «المسوغ الإضافى» يمكن أن يكون أكثر قوة وإلحاحا، بما أن تحديد مدد شغل المنصب الرئاسى بمدتين فقط كان من أهم مطالب ومكاسب ثورة يناير، التى لم يختلف عليها اثنان، رغم الخلاف والانقسام بل والصراع حول كل شىءآخر تقريبا، وهو ما تشهد به جميع المداولات والوثائق الدستورية منذ عام 2011، حتى الدستور الحالى.
يؤكد هذه الملاحظة أن أحد أهم المؤيدين، وهو الدكتور على الدين هلال اقترح أن ينص بوضوح على قصر إطلاق المدد الرئاسية على شخص الرئيس عبدالفتاح السيسى وحده، ولا يسرى إطلاق المدد على من سيخلف السيسى، فإلى جانب أن هذا الاقتراح يقدر الدور الاستثنائى للرئيس فى إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين، فإنه يعنى أيضا الشعور بصعوبة إقناع الرأى العام بخسارة مكسب تحديد المدد الرئاسية نهائيا ودفعة واحدة.
ويؤكد هذه الملاحظة أيضا الاتجاه لتنشيط الحياة السياسية من خلال الاحزاب، وطرح فكرة تكوين ظهير حزبى للرئيس، يقابله حزب أو أحزاب معارضة، يفترض أن تكون متفاهمة مع السلطة، أو متفهمة للشروط والحدود.
يتوازى مع ذلك الحوار المحدود مع شباب مختارين من الاحزاب التى شاركت فى الدعوة إلى مقاطعة انتخابات الرئاسة الأخيرة، والافراج عن مسجونين من أعضاء وقيادات هذه الأحزاب، وقد تلى خطوات أخرى.
إن الهدف الإجرائى من مثل هذا المسوغ الإضافى، إلى جانب توفير الغطاء الأدبى أمام الرأى العام، هو تمرير التعديلات بأقل قدر من الصخب الاحتجاجى أمام العالم الخارجى، إذ لاشك أن الحكومات المصرية تحرص – منذ تحول السادات إلى التحالف مع الغرب الامريكى الاوروبى – على الوفاء ببعض المعايير العزيزة على أولئك الامريكيين والاوروبيين، ولا شك أيضا أن السياسة الداخلية المصرية هى فى جانب منها شأن دولى، وأن مواقف الدول الكبرى هى أيضا من مدخلات السياسة الداخلية المصرية، خاصة وأن القاهرة تعول كثيرا على واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى فى كثير من جوانب السياسة الخارجية والأمن القومى والتنمية الاقتصادية.
لكل ذلك سيكون بناء إجماع أو توافق على تعديل الدستور هو محور وموضوع وهدف كل التطورات السياسية الداخلية المقبلة وشيكا فى مصر.
من الناحية النظرية البحتة سيكون مطلوبا من الاحزاب المنخرطة فى هذه التحركات أن تقدم – بدورها ــ مسوغا إضافيا لقواعدها وللرأى العام، كى تقتنع تلك القواعد، ويقتنع الرأى العام بأن هذه الأحزاب حصلت لنفسها، وللمجتمع على بعض المكاسب من هذه الصفقة، ونظريا أيضا فإن المتاح أمامها قد يشمل اقتراح النص فى التعديل الدستورى على مدة إضافية ثالثة، على سبيل الاستثناء للرئيس السيسى، ويمكن إطالة هذه المدة الاستثنائية إلى خمس سنوات لمرة واحدة، أو إطالة الفترة الرئاسية إلى خمس سنوات كقاعدة عامة، بدءا بهذه الفترة الاستثنائية الثالثة.
وقد يشمل المتاح أمام الأحزاب المطالبة بتعديل القوانين والاجراءات المكبلة للحياة السياسية، والتى منها قوانين الانتخابات والجمعيات الأهلية، وقانون مجلس النواب، والحد من المبالغات فى الحبس الاحتياطى، مع إطلاق سراح المحتجزين غير المتورطين فى العنف والإرهاب، أو التحريض عليهما.
بطبيعة الأمور ستفضل بعض الأحزاب والجماعات البقاء خارج هذه الصفقة، وفى الغالب لن يكون فى وسعها سوى الاحتجاج، لكن الأخطر عليها هو انقسامها داخليا، فى تكرار لسابقة الانقسام حول الموقف من ترشح وانتخاب الرئيس السيسى فى المرة الأولى، وهو ما دفع بعض الأحزاب إلى عدم اتخاذ قرار بالتأييد أو عدمه، وترك الحرية لأعضائها للتصويت بصفة فردية.
كما قلنا فى بداية هذه السطور، فهذه محاولة لقراءة وتحليل معطيات المشهد الحالى فى مصر كما هى، أو كما تتراءى لنا، بلا موقف مسبق أو تمنيات أو أوهام، وكل ما نستطيع أن نضيفه فى ختامها هو أن الضرورة للتوافق حول تعديل الدستور، والحاجة إلى الإقناع أو تخفيف حدة المعارضة فى الداخل والخارج كشفتا عجز الأدوات والوسائل غير السياسية عن الحلول محل الأدوات والوسائل السياسية المتعارف عليها لإدارة الشأن العام، والاستحقاقات الكبرى، و إذا كانت المحاولة الجارية الآن لتدارك هذا العجز يشوبها قدر كبير من الاصطناع، فليس فى وسع أحد أن يتحكم كل الوقت فى كل التداعيات، وفى الوقت نفسه، فالعمل السياسى الشكلى لن يخلو نهائيا من كل المضامين، أو كما يقول أحد العارفين: «اعبد الله ولو رياء، فالرياء يصير عادة، والعادة تصير عبادة».