كأننا بتلك المسميات، التى ارتضاها نتنياهو وقادة المقاومة الفلسطينية المسلحة، عناوين لأحدث حلقاتهما الدامية ضمن تراجيديا المعاناة المأساوية للشعب الفلسطينى، والتى واكبت النكبة فى ذكراها الثالثة والسبعين، قد أعادتنا إلى عصور العربدة البشرية الظلامية، حيث زمن الحملات الصليبية الهمجية، أو حقبة الحروب الدينية العبثية.
فمجددا، آتت أكلها المخططات الإسرائيلية لاستدراج الفصائل الفلسطينية إلى شرك مواجهة جديدة غير متكافئة، بدفع مستوطنين متطرفين لانتزاع منازل من عائلات فلسطينية بمناطق مقدسية، بغية تأجيج عاصفة من الغضب العارم بعموم الأراضى الفلسطينية، تندفع على إثرها المقاومة المسلحة لإطلاق عملية اسمتها «سيف القدس»، تمطر المدن الإسرائيلية بما يناهز 4300 صاروخا متنوع المديات، والمهام، والرءوس الحربية، علاوة على الطائرات المسيرة المفخخة، والغواصات التى تدار عن بعد، ما أزهق أرواح اثنى عشر إسرائيليا وخلف مئات آخرين من الجرحى. بدوره، شن جيش الاحتلال عدوانه المكثف، المخطط سلفا والمدعوم أمريكيا، تحت مسمى «حارس الأسوار»، ليتمخض عن استشهاد ما يناهز 250 فلسطينيا، وجرح الآلاف، فضلا عن تشريد ونزوح عشرات الآلاف، جراء الدمار الهائل الذى حول آلاف المنازل والأعيان المدنية بقطاع غزة إلى أطلال.
مزهوا بما اعتبره «نجاحا استثنائيا» لعدوانه، الذى يتوسل به تحقيق ما وصفه، هنرى كيسينجر، بحلم إسرائيل فى «تشريع الستاتيكو»، عبر فرض معادلة أمنية جديدة مع فصائل المقاومة الفلسطينية، تؤبد ردعها، وتكفل كسر إرادتها، بعد إعادتها القهقرى سنين عددا، إثر تصفية أبرز قياداتها، وتدمير بنيتها العسكرية التحت أرضية، وتحويل قطاع غزة إلى «جزر خرائب»، حسب قيادات جيش الاحتلال. يتطلع رئيس الوزراء الإسرائيلى، المقهور سياسيا، إلى أن تمنحه مخرجات عملية «حارس الأسوار» قبلة الحياة، بتمكينه من دحر خصومه السياسيين، وتشكيل حكومة جديدة، تتيح له الإفلات من محاكمة وشيكة، قد تهوى به فى غياهب السجون.
أما حركة حماس، التى لم تنج من السقوط فى براثن الاستقطاب الاستراتيجى الإقليمى، فتعتبر نجاح منظوماتها الصاروخية فى اختراق القبة الحديدية الإسرائيلية، بنسبة تقارب 30%، لتقض مضاجع الإسرائيليين بمختلف أصقاع دولة الاحتلال، وتجبرهم على تجميد أنشطة حياتهم اليومية، واللوذ بالملاجئ والاحتماء بالمخابئ ليالى وأياما مذعورين، بمثابة طفرة مذهلة فى قدراتها العسكرية ونقلة نوعية فى استراتيجيتها القتالية. ومن ثم، ترنو إلى ترجمة ما أسمته «نشوة الانتصار» عبر «سيف القدس» إلى تعظيم مكانتها، كما باقى فصائل المقاومة، بوصفهم الدرع الواقية للحرمات الفلسطينية، والراعى الرسمى الأجدر بتمثيل الشعب الفلسطينى قاطبة. خصوصا بعدما عجزت ردود أفعال السلطة وحركة فتح عن الارتقاء إلى مستوى ترقب جموع الفلسطينيين، مؤججة بذلك هواجسها من محاولات تغيير النظام السياسى الفلسطينى.
منذ قرابة عقدين مضيا من الزمن، يكافح قطاع غزة للالتحاق بقائمة الجبهات العسكرية فى المواجهات المحتملة بين إسرائيل ودول الطوق العربى، كمصر وسوريا والأردن ولبنان، ليشكل جبهة خامسة إضافية. وبناء عليه، هرعت إسرائيل إلى بلورة استراتيجيتها العسكرية وصوغ عقيدتها الأمنية، انطلاقا من التحسب الدائم لهجمات متنوعة ومتزامنة من تلك الجبهات. كما شرع جيشها فى إجراء التدريبات الدورية على القتال بميدان «معركة ديناميكية ومتغيرة»، على غرار مناورات «عربات النار» التى كانت تدور رحاها، حتى إطلاقه هجومه الأخير على القطاع.
غير أن تصاعد وتيرة المواجهات بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال فى عموم الأراضى المحتلة هذه الأيام، قد عزز من إمكانية بروز جبهة مواجهة سادسة محتملة ضد الدولة العبرية، يشكلها عرب 48، الذين يدنو تعدادهم من المليونى نسمة، بما يعادل 21 % من سكانها. فما إن أطاحت المأساة الغزاوية بالفواصل المصطنعة بينهم وبين ذويهم فى ربوع الأراضى المحتلة والشتات، حتى انتفض الفلسطينيون بالمدن والبلدات الإسرائيلية المختلطة، فى تظاهرات غاضبة تضامنا مع أهليهم فى قطاع غزة والقدس الشرقية. لكنها ما لبثت أن تدحرجت إلى دورة عنف طائفى محبطة مع مستوطنين لا يرعوون عن مهاجمة منازل الفلسطينيين وقمع احتجاجاتهم السلمية بالقوة الباطشة، تخللتها معارك شوارع مفتوحة، وعمليات طعن وإطلاق نار. كما لم تخل من صدامات دامية مع الجيش والشرطة الإسرائيليين، سقط بجريرتها عشرات الشهداء الفلسطينيين وأصيب المئات، فيما أعملت سلطات الاحتلال اعتقالاتها العشوائية فى صفوف عشرات الآلاف من المتظاهرين العرب السلميين.
بينما يطيب للبعض اعتبار حراك عرب 48 بمثابة انتفاضة فلسطينية ثالثة أشعلتها انتهاكات قوات الاحتلال فى القدس وغزة، تبرز حقيقة كونها احتجاجا على سبعة عقود من نظام التمييز العنصرى الإسرائيلى، الذى يتعاطى مع نحو مليونى فلسطينى من سكان البلاد الأصليين باعتبارهم رعايا معدومى الحقوق، أو مواطنين من الدرجة الثانية. إذ يحاصرهم بعشرات القوانين التى تسلبهم حرياتهم وتحرمهم من حقهم فى المساواة الكاملة، مثلما لا يتورع عن مصادرة مساكنهم لصالح المتطرفين اليهود، أو إبقائهم تحت طائلة العنف المتواصل، والتمييز الممنهج، والعنصرية المؤسسية من قبل المواطنين والساسة والقادة الأمنيين الإسرائيليين.
إضافة إلى تردى أوضاعهم المعيشية إلى حد انزلاق أكثر من نصفهم تحت خط الفقر، تعاظم سخط عرب 48، خلال السنوات الأخيرة، جراء استفحال الاستيطان اليهودى، واستشراء النهج التمييزى بإقرار قانون «الدولة القومية لليهود» عام 2018، الذى يختص اليهود وحدهم بحق تقرير المصير، ويصنَف اللغة العربية كلغة تتمتع بـ«مكانة خاصة» بعد أن كانت لغة رسمية. أما سياسيا، فما برحت الأحزاب، التى تمثل المجتمع العربى داخل إسرائيل، أسيرة الإقصاء والتهميش، مع مواصلة حلفاء نتنياهو من اليمينيين المتطرفين، استخدام حق الفيتو للحيلولة دون تمكينها، أو إشراكها فى أية حكومة.
بقدر ما فندت انتفاضة عرب 48 مزاعم إسرائيل بشأن دولتها الديمقراطية، التى تتسع للجميع بغير تمييز، فقد أعادت طرح سؤال الهوية المصيرى داخل الكيان الإسرائيلى الفسيفسائى الهش. فبينما عبر وزير الخارجية الأمريكى بلينكن عن قلق بلاده حيال تصاعد العنف فى شوارع الدولة العبرية، التى ناشد مواطنيه تجنب السفر إليها، حذر الرئيس الإسرائيلى، من مغبة اندلاع حرب أهلية فى البلد المهترئ، فيما اعتبر وزير دفاعه ذلك الصدع الداخلى تهديدا تفوق وطأته أية مخاطر خارجية. وفى تعبير واضح عن ارتباكه السياسى والأمنى، أعلن نتنياهو عن تخصيص المزيد من الموارد المالية، واستدعاء سرايا إضافية من قوات الاحتياط، لقمع واحتواء الاضطرابات فى المدن والبلدات المختلطة.
ما كاد استعار جبهة عرب 48 يفاقم تصدعات الجبهة الداخلية المدنية للدولة العبرية، مقوضا رهانات مواطنيها المرتجفين على ترهات الصمود الوطنى، وروح المصير المشترك، ووحدة الهدف، والتضامن، والاستعداد لتحمل الأعباء، والتى سبق لجائحة «كورونا» أن عرت سوآتها بعدما أسقطت عنها ورقة التوت، حتى اضطر نتنياهو، بوازع من رغبة ملحة فى إنقاذ سمعة بلاده المتهاوية أمام العالم، إلى التعهد بالعمل على ترميم شروخ العلاقات الملغومة بين اليهود والعرب، استجداءً للتعايش السلمى المفقود بينهما.
كديدن السياسة فى بلادنا، شكَل حراك عرب 48 مجالا للاستقطاب السياسى الحاد بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية. ففيما دعا أبو مازن عرب الداخل إلى تجنب العنف ونبذ الاحتجاجات تلافيا للمآلات الوخيمة، انبرى مسئولو حماس يحرضونهم على مواصلة انتفاضتهم التى اعتبروها وقودا للنضال ضد المحتل الغاصب.الأمر الذى حض حركة «فتح»، التى يترأسها أبو مازن، على إطلاق دعوات للتضامن الفلسطينى «من البحر إلى النهر»، لبتها مدن فلسطينية شتى بالضفة وإسرائيل، من بوابة العصيان المدنى، بإعلانها إضرابا عاما يوم الثلاثاء الفائت، احتجاجا على استمرار الجرائم الإسرائيلية إزاء القدس والضفة وغزة، وإطلاق «حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها«» (BDS) بالضفة الغربية، فى اليوم التالى، حملة واسعة ومنظمة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وتصعيد الحملات الاستراتيجية ضد الشركات العالمية المساندة لإسرائيل.
خلافا للدول والجيوش النظامية التى تلتمس الحكمة وتتوخى الحذر، قدر استطاعتها، قبل الإقدام على استخدام الخيار العسكرى، بحيث تخضع قرارا، بهذا المستوى من الخطورة، لتقديرات استراتيجية وتقاليد مؤسسية معقدة للغاية، غالبا ما يتأتى تحرك الفاعلين دون الدولة كالتنظيمات والحركات المسلحة، بهذا الصدد، من اعتبارات انفعالية، كالرغبة فى استعراض القوة، أو الاحتفاظ بالتأييد الجماهيرى، دونما تقيد بأية حسابات استراتيجية. فلقد عمدت فصائل المقاومة الفلسطينية إلى استخدام قدراتها العسكرية من الأنظمة التسليحية المكلفة، التى دأبت على تجميعها وتخزينها طيلة سنوات، كالصواريخ والطائرات والغواصات المسيرة، لترسيخ صدقية شعاراتها أمام الفلسطينيين فى مجمل الأراضى الفلسطينية والشتات، لجهة الذود عن المقدسات والتصدى للمحتل الغاشم.
على ضوء ذلك المعطى الاستراتيجى الحيوى، الذى يصادف عزوف جل دول الإقليم، لعديد محددات، عن توريط جيوشها النظامية فى الحروب الشاملة، وتبنيها، بدلا من ذلك، مقاربات دبلوماسية لتسوية النزاعات وحلحلة الأزمات، يوشك الشرق الأوسط أن يغدو مسرحا للمواجهات العسكرية بين الدول والفاعلين من دون الدولة. سواء من قبيل الاشتباكات بين جيش الاحتلال الإسرائيلى وفصائل المقاومة المسلحة فى فلسطين ولبنان، أو على شاكلة حروب التحالف الدولى، كما جيوش بعض دول المنطقة، ضد التنظيمات الإرهابية المنبعثة بقوة مثل «داعش» و«القاعدة» ومن بايعهما أو شايعهما. الأمر الذى اعتبره وزير الدولة البريطانى لشئون الشرق الأوسط، جيمس كليفرلى، تكريسا مروعا لسياسة «حافة الهاوية» فى بقعة ملتهبة.