ليس بمستطاعٍ التسليم، ببساطة، بفرضية صحة التأريخ الرائج، وفق الصيغة السائدة في المرويات التوراتية وفي بعض المتوارث من الإسلاميات المنقولة في جانب منها من "الإسرائيليات القديمة" التي اقتحمت تراثنا اقتحاما، بخصوص منطقة الشرق العربي القديم بما فيها مصر. لقد بات هذا التاريخ محل شك كبير بعد التحدّي الذي أظهره كمال الصليبي وبعض تلامذته- مثل زياد منّي- وصولا إلى فاضل الربيعي، بتأكيد أن التاريخ اليهودي إنما هو تاريخ اليمن وليس تاريخ فلسطين بأي حال.
فارق جوهري بين أن تعتبر التاريخ المتعلق بوجود بني إسرائيل واليهود تاريخا موصولا بالعراق الحالي والشام كذلك، بمعناها الواسع، بما فيها فلسطين، ومصر أيضا، وبين أن تعتبر أن ذلك التاريخ إنما هو موصول بجنوب شبه الجزيرة العربية، وخاصة اليمن.
وإنني لأشعر بقوة جاذبية "النظرية اليمنية" في التاريخ الإسرائيلي واليهودي، وكدتُّ أميل إليها ميْلا، ولكنّي لا أستطيع الجزم بذلك على كل حال. فما يزال علم التاريخ والأركيولوجيا لم يبح بكل أسراره بعد، وما زال ثمة طريق طويل، قبل إمكان إعلان "موت" النظرية التوراتية موتا كليا، وليس "إكلينيكيا" فحسب، برغم وجود دلائل قوية على ذلك. وحتى بفرض إعلان موت النظرية التوراتية، ذات الجذر والمضمون الميثولوجي المحض إلى حد بعيد، فإن "البديل اليمني"، إن صح التعبير، لم يزل مفتقدا للاحتشاد بكامل عدته العلمية ليقوم بتحد ناجح لإثبات فرضيته الرئيسية، بعد نجاحه المحتمل في "نفي" نقيضه التوراتي المترنح. وعلى كل حال فإن هذا يدعونا إلى ضرورة امتحان الفرضيات البديلة حول التاريخ القديم للشرق العربي القديم، مشتملا لمصر، تحديا للمسلمات السائدة.
مع ذلك، أجدني، وحتى إشعار آخر، مستعدا للعمل ولو مؤقتا وفق فرضيات التاريخ الرائج، خاصة إن تم استعمال أدوات التحليل الإبستمولوجي- المعرفي- للنصوص التراثية. ولنسْتَمِحْ بعض الباحثين المتخصصين عذرا في ذلك، حتى تثبت صحة العكس. وهذا سؤال أول ذو مغزى مهم حول طريقة مقاربة التاريخ القديم لما ندعوه بالمشرق العربي بمعناه الواسع.
في ظل ذلك إذن، أمكن لنا القول بوقوع التفارق بين مصطلحيْ "بنى إسرائيل" و"اليهود" ومحتواهما المعرفي، وكذا بين تجلياتهما التاريخية، بعيدا عن المعطيات الأركيولوجية ذات الشأن خلال العقود الأخيرة، وخاصة في ضوء "الفرضية اليمنية"، حتى من بعض كبار علماء الآثار في "إسرائيل" كما هو معروف. يتبين هذا من حدثين رمزيين كبيرين، ظاهريْن في المرويات التاريخية: إذ وفق تلك المرويات فإن بني إسرائيل، يرجع جدّهم الأكبر إلى النبيّ إبراهيم من العراق، ومنها جاء إلى الشام الحالية "خاصة فلسطين" قادما فيما يبدو من خلال هضبة الأناضول. وهنالك نشأوا، ثم وَفَدّ منهم مَنْ وَفَد إلى مصر بدءً من يوسف. أما اليهود فجاءوا من مصر بادئ ذي بدء، على يد موسى، باتجاه سيناء ومنها مرة أخرى إلى هوامش (فلسطين– الأردن) الحالية. وفق تلك الرواية إذن: بنو إسرائيل نشأوا، أو جاءوا، مع إبراهيم ونسله حتى يوسف. وقصارى ما ذهبوا إليه زمن موسى هو الاقتراب من حدود فلسطين الحالية، ولم يدخلها "يهود موسى" لأن في فلسطين (قوماً جبارين). ويبدو أن بعضهم بعد موسى، بدأ بنوع من التوافد إلى فلسطين، ثم أخيرا خلقوا لأنفسهم تاريخاً خاصاً، أو قاموا باختلاق تاريخ مخصوص، يعود بهم حصريا ولهم وحدهم، إلى نسل إبراهيم، إسحق ويعقوب. وإن هذا الاختلاق ليمثل الدعامة "الإيديولوجية" للمشروع السياسي "اليهودي" المعاصر في فلسطين، والذي يستند في جانب منه إلى الادعاء بوجود سياسي سابق، وخاصة زمن المملكة الموحدة لداوود وسليمان. وهو وجود نعرف من التاريخ الرائج أنه على وجه العموم متقطع ومؤقت، ومبعثر جغرافياً، ومن ثم غير متصل تماما من حيث المكان وغير مستمر من حيث الزمان.
ولكن الحقيقة التاريخية تبقى ماثلة بأنه لا رابط مباشرا وثيقا، من ناحية التكوين البشري أو الإثنولوجي، بين موسى (المصري وطنا فعليا) ومن معه، من جهة أولى، وبين بنى إسرائيل وأسلافهم، من جهة ثانية. أو أنه، على أقل تقدير، لم يتم إقامة الدليل التاريخي أو الأركيولوجي الثابت للعلاقة بين الطرفين حتى الآن، وخاصة لجهة احتكار "أصل إسرائيلي" مقصور على اليهود الذين هم أتباع الديانة اليهودية، أي الموسوية في الجذر العميق.
ويدعونا ما سبق، بعد مجابهة سؤال التاريخ القديم عبر امتحان فرضياته البديلة كما أشرنا، إلى مجابهة سؤال المنهج، كما سنشير.
وفي مسألة المنهج، نُجْري فيما يأتي حديثاً ممتدّا إلى التاريخ والاستراتيجيا، حديثا قائما على خيط ممتدّ بين نقاط ثلاثة لمتصل واحد (Continuum): أولاها النقطة الممثلة للميثولوجيا، الأسطورة، حيث البناء الحكائي التوراتيّ الكامن فى المرويات، والكائن فى حقل تداول الخطاب اليهودى، والثانية تمثل "المخيلة" أو الذاكرة الجمعية، حيث تنتقل الميثولوجيا إلى حيّز "اللاشعور السياسى"، وتتطور لتصبح بمثابة الإطار العميق للبنية التفكيرية للجماعة على المستوى النفسى– السياسى. ثم أن المخيلة– على النقطة الثالثة للمتصل– تصير وعاءً لبناء الإيديولوجيا السياسية المهيمنة على الجماعة في زمان ومكان معينين.
تطبيقاً لما سبق على التاريخ اليهودى السياسي، تحولت الميثولوجيا التوراتية إلى بنية تفكيرية عميقة لدى شرائح مؤثرة من الصفوات اليهودية عبر التاريخ، وخاصة منذ القرن التالي لميلاد المسيح- مما لا مجال للتفصيل فيه هنا- بحيث انتقلت من حيز اللاشعور إلى قوة للتخييل وبناء التصورات الوجودية.
فكرة "شعب الله المختار" لها أهمية مركزية هنا، وكذلك "التمركز" حول "جبل صهيون" و"أورشليم" في سياق الشتات" و"العودة". هكذا جرى تأسيس الذاكرة اليهودية على المستوى المهيمن للتاريخ اليهودي بشكل عام.
ولكن منذ 1897 (المؤتمر اليهودى الأول) اتُّخِذت الذاكرة تكئة لبناء البذور الأولى للإيديولوجيا السياسية الصهيونية، وأخذت الذاكرة اليهودية في التحول والصيرورة إلى "عقيدة صهيونية" أو "يهودية – صهيونية" إن شئت: شعب بلا أرض، يعود إلى أرض بلا شعب. والضحية هى فلسطين الشعب والأرض على كل حال.
وكما هو شأن الإيديولوجيات الرجعية عبر التاريخ البشرى عموماً، والإيديولوجيات الاستعمارية فى العصر الحديث خصوصاً، فإن الإيديولوجيا تُبطن أكثر مما تُظهر؛ هى بمثابة البنية السطحية غير العاكسة للبنى العميقة فى الفكر والممارسة معاً.
فلسطين فى الإيديولوجية – الصهيونية هى على سبيل التشبيه، "قمة جبل الثلج" التى تخفى من ورائها ما هو أبعد بعيداً، وأكثر كثيراً من مجرد فلسطين.
وبذلك تكون الإيديولوجيا الصهيونية ليست إيديولوجيا رجعية فقط، ولكن استعمارية أيضا، تمثل جزء فحسب من الاستراتيجية الاستعمارية العامة للغرب الأوروبى– ثم الأمريكى – تجاه المنطقة العربية فى العصر الحديث.
لذلك صحّ ويصحّ القول بأن الصهيونية (اليهودية – الصهيونية بتعبير آخر) تؤسس لإمبريالية فرعية أو صغرى ضمن الإمبريالية العامة أو الكبرى، التى تجسدت سابقاً فى القيادة البريطانية للعالم الغربى، وتتجسد حالياً فى الولايات المتحدة الأمريكية. لعل هذا يفسر لنا جزءاً من سر الاهتمام الأمريكى بإسرائيل، مما حارت فيه الألباب وذهبت فيه كل مذهب. فالحق أن إسرائيل شريك– على مستوى أدنى نعم– لقوة الهيمنة الغربية– الأمريكية على المنطقة العربية، والمنطقة العربية– الإسلامية المركزية بشكل أوسع، هيمنة تتأسس على اعتبارات اقتصادية واستراتيجية وعقائدية شتى، ولكنها الحقيقة الماثلة.
هذا، وإن المشروع الصهيونى ليس متطابقاً تماماً مع المشروع الغربي– الأمريكي للسيطرة على المنطقة العربية، والمنطقة العربية– الإسلامية المركزية، ولكن هناك نقاط تطابق (مثل الموقف المتطابق من القضاء على التحدى العراقى السابق)، ونقاط تلامس (مثل الموقف من مواجهة التحدى الإيرانى الراهن).
بيْد أنّ المشروعين متمايزان نسبياً. ذلك أن السيطرة الإسرائيلية على المنطقة القائمة بين نهر الفرات وفرع دمياط من نهر النيل تبدو وكأنها مسألة حياة أو موت للمشروع الصهيوني، المتدثّر بالميثولوجيا الدينية في نسختها التوراتية السائدة، انتقالا إلى مشروع دولة عنصرية تُحدِث التماهي بين الصهيونية واليهودية (إسرائيل كدولة يهودية).
السيطرة الإسرائيلية على المنطقة المذكورة بالذات، وقلبها فلسطين التاريخية بما فيها الضفة الغربية (وغور الأردن وشمال البحر الميت بالذات) تظهرها كمنطقة نفوذ بالمعنى الواسع على غرار التصور "الهتلري" مثلا للعلاقة الألمانية مع منطقة أوراسيا قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية.
أما بالنسبة للغرب فهناك سلّة خيارات يمكن التعامل بواسطتها مع المنطقة المذكورة؛ وأحد هذه الخيارات استخدام إسرائيل نفسها "كمخلب قط" و"فزّاعة". وبمقتضى هذا الدور المزدوج (مخلب القط والفزّاعة) تلعب إسرائيل دورها الكبير المنتظر دائمًا فى الاستراتيجية الغربية، وهو الحيلولة دون السير على طريق المشروع القومى لبناء كيان عربي موحد وقويّ، وذلك عن طريق أداء دور الحاجز أو الفاصل البشرى المانع للالتحام وخاصة بين المشرق والشمال العربى لإفريقيا (مصر والسودان والمغرب الكبير).
فماذا بعد..؟
غير أن هذا حديثٌ آخر.