لم يمر على جيلى من أبناء المهنة أسوأ من تلك الأيام، التى اختلط فيها «هباب برك» السياسة، بـ«وحل» الاقتصاد، حتى صار المشهد الصحفى «أسود من قرن الخروب».
المجال السياسى ضاق إلى الدرجة التى صار فيها الصحفيون يترحمون على عصر مبارك، «ولا يوم من أيامك يا أبوعلاء».. كان السقف السياسى للإعلام قبل خمس سنوات أعلى بكثير من السقف الذى نعمل تحته الآن.. خاضت صحف خاصة وحزبية معارك شرسة مع النظام، جعلت من رأسه هدفا.. مد الكتاب أقلامهم فى مشروع التوريث.. فشل إعلام «طشة الملوخية»، و«ولدت يوم ولدت مصر» فى الدفاع بالكذب والنفاق، عن نظام بدأ مشوار السقوط، فى وقت خاض فيه الإعلام الحر معركة تعرية هذا النظام، حتى قضى الله أمرا كان مفعولا فى 25 يناير 2011.
بعد سقوط مبارك ومشروع التوريث، تولى المجلس الاعلى للقوات المسلحة المسئولية، فنُسفت الأسقف، وصارت السماء السقف الوحيد للإعلام.. حاول الإخوان بعد وصولهم إلى السلطة فى عام «الرمادة» إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة، لكنهم فشلوا.
الآن وبعد أكثر من عامين على سقوط الإخوان، أعدنا صب سقف البيت الاعلامى بأيدينا، وهبطنا به من السماء.. رئيس تحريرك يمارس عليك رقابة فيما تكتب وما تختار من عناوين للموضوعات الصحفية، وأنت تمارس على نفسك نوعا آخر من الرقابة الذاتية، وتمارسها بالتبعية على من يعملون معك من محررين.
نقد الرئيس وقراراته وتحليل خطابه له سقف، الاقتراب من المشروعات الكبرى مثل «تفريعة قناة السويس»، أو «العاصمة الإدارية» أو «المليون ونصف المليون فدان» له سقف آخر.. حتى يقترب سقفك من الأرض، فتشعر بأن الهواء بدأ ينفد من حولك.
اقتصاديات الصحافة، هذه الأيام «لا تسر عدوا ولا حبيبا»، فرجال الأعمال الذين دفعوا فى قنوات الإعلام والصحافة الملايين خلال السنوات الماضية للحفاظ على مصالحهم، أوقفوا عملية الضخ، إما لأنهم «قضوا منها وطرا»، أو أنهم خافوا من أنياب السلطة فآثروا السلامة وابتعدوا، وتركوا الصحفيين «الأجرية» فى مهب الريح.
فى هذه المتاهة لا يجد الصحفى من يتحمل مسئولية عدم سداد مصروفات أبنائه فى المدارس، أو وفائه بطلبات منزله الأساسية، أو حتى عدم قدرته على مغادرة المنزل لأنه لا يملك حق المواصلات.
ما سبق فقرات من مقال كتبته فى نفس الزاوية قبل عام تحت عنوان «حالنا يصعب على الكافر»، كلمات المقال لخصت حالة اليأس التى ضربت الصحفيين.. ضيق المجال السياسى وهبوط سقف الحريات، والفقر «الدكر» الذى تفشى فى معظم المؤسسات الإعلامية، أصاب القابضين على جمر المهنة بالأحباط وظهرت على بعضهم أعراض «العدمية»، وهو ما دفعنى إلى أن أختم مقالى حينها بـ«لا أرى أى شعاع نور فى نهاية النفق، الظلام يشتد، فالسقف خانق، ولقمة العيش مهددة».
الآن وبعد أن وقعت المؤسسات الإعلامية تحت سيطرة جهات بعينها سواء بالاستحواذ أو بخنقها إعلانيا، صار الحال أسود مما كان عليه قبل عام، فصار الصحفى رهينة لقمة عيشه فإما أن يكون جزءا من منظومتهم وينضم إلى صفوف «النطيحة والمتردية وما أكل السبع»، أو يتحول إلى طريد مشرد لا يجد ما يسد به حاجة أبنائه.
المهنة فى خطر، وإن لم يتفاعل أبناؤها مع الأزمة التى فرضت عليهم، ويطرحونه للنقاش العام ويضعونه على أجندة جمعيتهم العمومية المقبلة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.
قدر الصحفيين فى هذه اللحظة أن يدافعوا عن مهنتهم فى معركة المصير، ويبحثوا عن مخرج من هذا النفق، فى لحظة تكالبت عليهم فيها طيور الظلام.