الأمن الداخلى.. مركزى أو لا مركزى:
على أثر التمرد المسلح لقوات الأمن المركزى فى منتصف الثمانينيات أخذت أبحث فى قضية الأمن الداخلى فوجدت أن قضية الأمن الداخلى وهل يكون مركزيا فى تنظيمه أو لا مركزى.. قضية حسمت منذ أمد طويل لصالح اللا مركزية.. فعلى أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية مثلا شرعت معظم الديمقراطيات الغربية فى اتباع أسلوب اللا مركزية بالنسبة لقوات الشرطة حتى لا تصبح القوة المركزية لها صفات الميلشيات العسكرية، أما البلاد التى مزجت بين النظامين فقد اتبعت أسلوب اللا مركزية كأساس ثم قامت بإنشاء قوة صغيرة ذات كفاءة عالية ومكونة من أفراد منتقين ومنتمين انتماء دائما لهذه المؤسسة كدرع للأمن والنظام الداخلى ولمعاونة الشرطة العادية المكلفة بمهام تقليدية.
لويس الرابع عشر والبوليس المركزى:
وتذكر الموسوعة البريطانية تحت عنوان «مخاطر البوليس المركزى» أن فرنسا كانت من أوائل الدول التى أنشأت قوة للأمن المركزى كدرع للحكم وكانت تسمى «البوليس السياسى» وكان ذلك فى عهد لويس الرابع عشر واستشرى أمر هذه القوة حتى أصبحت تتدخل فى كل شئون الحياة وحتى فاخر رئيسها المسيو سارتين مرة بقوله للملك: «ما من ثلاثة يتناجون فى باريس يا مولاى إلا وأحدهم من رجالى».
تجربة ألمانيا واليابان بعد الحرب:
أما فى ألمانيا فإن نظرية «لا مركزية الشرطة» لها جذور راسخة فى الأحقاب المختلفة للتاريخ الألمانى باستثناء فترة «الرايخ الثالث».
وفى اليابان ــ وبعد انتهاء حكم المؤسسة العسكرية ــ قامت الحكومة الديمقراطية فى اليابان بحل الشرطة المركزية وإعادة تنظيمها على أساس إقليمى وإخضاعها للرقابة الديمقراطية وتم إنشاء شرطة خاصة صغيرة الحجم ــ عالية الكفاءة لمكافحة الشغب.
بريطانيا تعدل عن إنشاء شرطة مركزية:
أما المملكة المتحدة فلا توجد بها شرطة مركزية على الإطلاق، وإن كانت قد فكرت فى عام 1962 فى إنشاء مثل هذه القوة وشكلت لجنة لدراسة هذا الاقتراح وانتهت اللجنة إلى رفض الفكرة وجاء فى تقريرها: «إن القوات الصغيرة الخاضعة لإشراف المجالس المحلية تكون لها حساسية أكبر للرأى العام وأن إنشاء القوة المركزية سيفقدنا الرقابة الديمقراطية عليها، وهى الرقابة التى إن فقدت فلا يمكن استعادتها إلا بكفاح مرير».
الرقابة الديمقراطية والانتخاب الشعبى
فى الولايات المتحدة:
أما الولايات المتحدة فهى أكثر دول العالم لا مركزية فى الشرطة، ووصلت بها الرقابة الديمقراطية إلى حد اختيار County Sheriff، وهو ما يعادل مأمورى المراكز عندنا، بالانتخاب الشعبى المباشر.. وبالطبع فإن ذلك يتم فى ظل توازنات عديدة بين سلطات المدينة والكاونتى والولاية والسلطات الفيدرالية.
واتجاه معظم دول العالم نحو لا مركزية الشرطة لا يقتصر على دول الغرب، بل هو الاختيار الواضح لجميع الدول التى تسير على طريق الديمقراطية.
أما نحن فى مصر فقد سبحنا عكس التيار وقمنا فى الستينيات بإنشاء قوة مركزية يصل حجمها إلى حجم الجيوش فى الدول المتوسطة وتستمد المجندين من الفرز الأخير للقوات المسلحة.. أى من العناصر غير اللائقة طبيا أو نفسيا وبالرغم من أن معظمهم قادمون من الريف ومحملون بأمراضه المزمنة فإنهم يمارسون أشق التدريبات، ثم يكلفون بمهام تكاد تكون مصممة خصيصا لتوليد التوتر العصبى فهم كما وصفهم أحد المراسلين الأجانب بالقاهرة: «هؤلاء الصبية الريفيون التعساء.. يجلسون لمدة 12 ساعة معبئين فى اللوريات دون أى عمل أو يقفون أمام السفارات الأجنبية بملابسهم السوداء الثقيلة لمدة اثنتى عشرة ساعة فى مقابل جنيهات قليلة.. يحلمون باليوم الذى تنتهى فيه مهمتهم الثقيلة ويعودون إلى بلادهم».
أمن الدولة وحكومة السويد فى قفص الاتهام:
طوال مدة عضويتى بلجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، كنا نتلقى شكاوى الأفراد ضد الحكومات من مختلف أنحاء العالم عدا مصر التى رفضت حكومتها ــ شأن العديد من الدول الدكتاتورية ــ قبول المادة 22 من اتفاقية مناهضة التعذيب التى تبيح للأفراد التقدم بشكاوى ضد الحكومات، وكنت أبحث هذه الشكاوى بوصفى مقررا للموضوع لعرض تقرير بشأنها على اللجنة مصحوبا بتوصية.
وقد بادرتنى مساعدتى فى أحد الأيام بأن لدينا شكوى من مواطن مصرى لأول مرة «ويبدو أنها مستكملة للشروط»، وقبل أن أقول كيف ذلك ومصر لم تقبل المادة 22، قالت: «إنه يشكو حكومة السويد لتسليمه لمصر بناء على طلب المخابرات الأمريكية، حيث تعرض للتعذيب».
وكانت الشكوى تتعلق بمواطن مصرى يدعى أحمد حسين مصطفى كامل عجيزة كانت أجهزة الأمن المصرية تطارده لصلة قرابة بينه وبين أحد المتهمين فى قضية اغتيال السادات، ففر إلى السويد وطلب اللجوء السياسى إلا أن السويد قامت بتسليمه لمصر بناء على تدخل الولايات المتحدة التى تولت مخابراتها CIA نقله على إحدى طائراتها إلى مصر.. وبالرغم من أن حكومة السويد أخذت تعهدات كتابية من مصر بعدم تعذيبه وبالرغم من الزيارات الدورية التى كان يقوم بها السفير السويدى له فى السجن، فإنه تعرض لشتى صنوف التعذيب.. طلب منى رئيس اللجنة التنحى عن نظر هذه القضية لأنها تتعلق بمصرى كما طلب ذلك من السيدة/ جيا العضوة الأمريكية كما تقضى الإجراءات ولكنى شاركت مستمعا فقط، وقد وجدت اللجنة أن السويد قد خالفت الاتفاقية بتسليمه لمصر على الرغم من أنها تعلم أن «التعذيب يمارس فيها على نطاق واسع وبصورة منهجية»..
وقد ترتب على بحث الموضوع أمام لجنة مناهضة التعذيب أن أولى الإعلام السويدى اهتماما بالقضية التى ناقشها البرلمان أيضا وترتب على ذلك وقف إجراءات ترحيل زوجته من السويد وبدء تدخل السويد بقوة لدى السلطات المصرية لمطالبتها بالوفاء بالتعهدات التى أعطتها وفقا لشروط التسليم.
ووجدت حكومة السويد نفسها فى وضع محرج وتكاثفت الضغوط عليها من البرلمان والإعلام ومحامى الشعب مما اضطرها إلى إصدار تشريع جديد يوفر ضمانات أكثر لطالبى اللجوء وإنشاء محاكم خاصة للهجرة، كما طالبت بإجراء تحقيق دولى مع مصر لمخالفتها شروط التسليم وقدمت للأمم المتحدة تقريرا يتضمن استعراضا تفصيليا للزيارات التى قامت بها السفارة السويدية للسجين والتى بلغت 32 زيارة.. فانظر أيها القارئ الكريم كيف أن فردا واحدا وأجنبيا ومتهما بالإرهاب ــ سواء عن حق أو غير حق ــ يقيم الدنيا ولا يقعدها فى السويد.. هذه هى ثمار الآلة الجبارة للمنظومة الديمقراطية من برلمان وقضاء وإعلام ومحامى الشعب والمجتمع المدنى.. أتمنى أن تقبل مصر الثورة المادة 22 من اتفاقية مناهضة التعذيب وتوافر لمواطنيها قناة دولية للشكوى لها إلزام قانونى، حيث تقضى المبادئ الدستورية بأن تصبح الاتفاقيات التى تبرمها الدولة قانونا ساريا فى البلاد بمجرد التصديق عليها ونشرها بالجريدة الرسمية.
وحالة السيد/ عجيزة هذه هى نموذج لعمليات ترحيل واسعة النطاق Rendition قامت بها الولايات المتحدة إلى دول يمارس فيها التعذيب بلا عواقب فى محاولة للحصول على معلومات من خلال التعذيب دون أن تتحمل الأجهزة الأمريكية أية عواقب سياسية أو قانونية..
وخلال السنوات الثمانى التى أمضيتها فى عضوية هذه اللجنة، كنا نتلقى تقارير عديدة عن صنوف التعذيب التى تمارسها الأجهزة الأمنية فى مصر خصوصا جهاز أمن الدولة.. وهى تقارير كانت ترد إلى اللجنة خارج نطاق المادة 22 وذلك من خلال مقرر التعذيب التابع لمجلس حقوق الإنسان أو من خلال تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والأهلية.
وقد طالبت اللجنة مرارا الحكومة المصرية باتخاذ عدة إجراءات لتوفير الحماية للمواطنين من التعذيب ومن بينها:
عدم السماح بوجود أماكن احتجاز خارج تلك التى يحددها القانون وتغليظ عقوبة مخالفة ذلك.
إيجاد آلية مستقلة للتحقيق فى جرائم التعذيب (أى لا تحقق الشرطة مع الشرطة).
ضبط سجلات السجون والأقسام وإتاحة الحق لهيئات المجتمع المدنى بالإطلاع عليها وإخضاع جهاز أمن الدولة (أو الأمن الوطنى حاليا) للتفتيش القضائى الدورى الملزم.
عدم اللجوء إلى الحبس الانفرادى وتقليل الاعتماد على الاعتراف كوسيلة لإثبات الجرم لأن ذلك غالبا ما يشجع على انتزاع الاعتراف بوسائل غير مشروعة.
إتاحة الحقوق الثلاثة الأساسية منذ الوهلة الأولى للاحتجاز وهى الحق فى محامٍ والحق فى توقيع الكشف الطبى والحق فى إخطار أحد أفراد الأسرة أو المعارف.
إيجاد نظام عادل للتعويض وإعادة التأهيل لضحايا التعذيب.
عمل اختبارات نفسية للراغبين فى العمل فى جهاز الشرطة.
قبول المادة 22 لإتاحة الفرصة للجنة لتلقى شكاوى الأفراد.
وأرجو أن تكون هذه المطالب من أولويات حكومة الثورة فى هذه المرحلة التى يتم فيها إعادة تشكيل جهاز الأمن الداخلى وإعادة تنظيم أجهزة الشرطة بوجه عام.