ما بين الخوف من سخط المولى، عز وجل، وعقابه، والرجاء فى عفوه ورحمته؛ ينبغى أن يبقى حال المؤمن، حتى يأتيه اليقين. وتنصرف مخافة الحق، جل وعلا، إلى تألم القلب بسبب توقع مكروه أو ترقب ما يغضب النفس. وكلما تعاظم خوف العبد من ربه فى الدنيا، استحضر وطأة عقابه، فامتنع عن معصيته؛ ذلك أن الخوف يحول بين العبد وإغضاب خالقه. فبه يستشعر المؤمن عظمة ربه، فيجتنب نواهيه، ويراقبه فى سره وعلانيته.
يجمع جمهور العلماء على أن من كان بالله أعرف، كان منه أخوف. حيث يقول، تجلت حكمته، فى الآية الثامنة والعشرين من سورة فاطر: «إنما يخْشى الله منْ عباده الْعلماء». وفى وصف عباده الصالحين، يقول تعالى، فى الآية السادسة عشرة من سورة السجدة:» يدْعون ربهمْ خوْفًا وطمعًا». وتستجلب مخافة الله طمأنينة للنفس، كما تستتبع التمكين فى الأرض، النجاة من كل شر، مغفرة الذنوب، ثم الفوز بالجنة. إذ يقول، ربنا، فى الآية السادسة والأربعين من سورة الرحمن: «ولمنْ خاف مقام ربه جنتان». وفى الآية الرابعة عشرة من سورة إبراهيم: «ولنسْكننكم الْأرْض من بعْدهمْ ۚذلك لمنْ خاف مقامى وخاف وعيد».
ثمة مخافة لله محمودة، وأخرى مذمومة. أما المحمودة، فهى التى تردع صاحبها عن الوقوع فى السيئات والولوغ فى المحرمات؛ كما تحفظه من الانحراف عن سبيل مرضاة مولاه. كمن يخشى سوء الخاتمة، سكرات الموت، عذاب القبر، أو الزيغ عن الاستقامة فى الدنيا، بما يستجلب غضب الإله وعقابه. أما إذا فاضت مخافة الله لتهوى بصاحبها إلى غياهب اليأس والقنوط، صارت ذميمة. فقد يورث الإفراط فيها، شعورًا باليأس والقنوط، أو إعراضًا عن الطاعات. ذلك أن غاية خشية الله، تكمن فى بلوغ الورع والتقوى، وليس هلاك النفس، أو اليأس والقنوط. ولقد حذرالمولى، عز وجل، عباده المؤمنين من ذلك، إذ قال، على لسان نبيه، يعقوب، وهو يوصى بنيه، بالآية السابعة والثمانين من سورة يوسف: «ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييْأس من روْح الله إلا الْقوْم الْكافرون». ويبصر، الحق تبارك وتعالى، عباده بأن القنوط واليأس من رحمته، رجس من عمل الشيطان؛ حيث يقول فى الآية الخامسة والسبعين بعد المائة من سورة آل عمران: «إنما ذٰلكم الشيْطان يخوف أوْلياءه فلا تخافوهمْ وخافون إن كنتم مؤْمنين».
أما الرجاء فى الله تعالى، فيتجلى فى حسن التوكل عليه، الأخذ بالأسباب لنيل عطائه فى الدنيا والآخرة، واستشعار كرمه وجوده وفضله. فذلك يبعث على الطمأنينة، ويحض على الاجتهاد فى العبادة. ولقد ضرب لنا نبينا المصطفى، صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، أروع المثل فى الرجاء. إذ قال، ربنا، فى الآية الحادية والعشرين من سورة الأحزاب: «لقدْ كان لكمْ فى رسول الله أسْوة حسنة لمن كان يرْجو الله والْيوْم الْآخر». وفى إشارة إلى سيدنا عثمان بن عفان، رضى الله عنه، يقول، عز من قائل، فى الآية التاسعة من سورة الزمر: «أمنْ هو قانت آناء الليْل ساجدا وقائما يحْذر الْآخرة ويرْجو رحْمة ربه». وللرجاء صور ثلاث: أولاها، توسل ثواب الله من خلال المداومة على طاعته، وتلك محمودة. وثانيتها، التماس مغفرة الله والطمع بعفوه ولطفه، وهى محمودة أيضا. أما ثالثتها، فطلب رحمة الله، دون الأخذ بالأسباب، أو الاعتصام بفضائل الأعمال. فذلكم التمنى مع التقصير، أو الرجاء المذموم. فالرجاء الحق، هو الذى يفتح باب الأمل فى الرحمة المغفرة، عبر المداومة على الطاعات. أما إذا ضل سبيله، انقلب تمنيًا، أمنًا وغرورًا، فأهلك صاحبه.
التوازن بين الخوف والرجاء منهج قرآنى، سبيل ربانى وهدى نبوى، أرسى الله قواعده فى قرآنه، وأرشد إليه عباده، حتى لا يضيعهم طغيان أحدهما على الآخر. يقول، سبحانه وتعالى، فى الآية التاسعة والأربعين من سورة الحجر: «نبئْ عبادى أنى أنا الْغفور الرحيم وأن عذابى هو الْعذاب الْأليم». فكأنه، تبارك وتعالى، يشهد رسوله على ذاته الإلهية فى التزام المغفرة والرحمة حيال عباده.حيث يوجه نبيه ليبشر كل من كان معترفا بعبوديته، جل شأنه، ويدخل فى هذا المؤْمن المطيع، والمؤْمن العاصى؛ ما يعنى تغليبه، تقدست أسماؤه، رحمته على عقابه. ويتلاقى ذلك مع قوله تعالى، فى الآية الثامنة والتسعين من سورة المائدة: «اعْلموا أن الله شديد الْعقاب وأن الله غفور رحيم». وفى الآية الثالثة والأربعين من سورة فصلت: «إن ربك لذو مغْفرة وذو عقاب أليم». وفى الآية السادسة من سورة الرعد: «وإن ربك لذو مغْفرة للناس علىٰ ظلْمهمْ وإن ربك لشديد الْعقاب». والآية الثلاثين من سورة آل عمران: «ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد». فحتى لا يغتروا بواسع رحمته، يذكر المولى عباده بأن عذابه هو العذاب الأليم. ولكيلا يقنطوا، يطمئنهم بعظيم مغفرته.
يروى، أبوهريرة، عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لو يعلم العبدقدر عفو الله، لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عقابه لبخع نفسه. أى: قتلها». وفى حديث عائشة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لن ينجى أحدا عمله. فيقولون: حتى أنت يا رسول الله؟! فيقول: حتى أنا؛ إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل». وعن المصطفى ﷺ أنه مر بنفر من أصحابه، وهم يضحكون، فقال: «أتضحكون والنار بين أيديكم»، فنزل قوله تعالى: «نبئْ عبادى أنى أنا الغفور الرحيم». والمعنى: أنهم إذا أدركوا عظم رحمته ووافر مغفرته، لسعوا فى الأسباب التى توصلهم إليهما، وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها، لينالوا عفوه. ففى الصحيحين، أنه قدم على النبى صلى الله عليه وسلم بسبى، فإذا امرأة وجدت صبيًا فى السبى فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار؟! قلنا: لا والله! وهى تقدر على أن لا تطرحه. فقال صلى الله عليه وسلم: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها».
لا تتأتى سعادة المؤمن فى دنياه وأخراه، إلا باقتران متوازن بين الخوف والرجاء. ذلك أن خوفًا بلا رجاء، يأس وقنوط. ورجاء بلا خوف، أمن وغرور. والسلامة أن يستوى الأمران، حتى يصيرا للسائر كالجناحين للطائر، يحلق بهما، حتى يبلغ جنات النعيم. ويقول أهل الذكر: «إن الحب، الخوف، والرجاء، مقامات ومنازل لا بد للسائر إلى الله أن ينزلها ويحلها قلبه؛ حتى يتم سيره إلى خالقه». وقال التابعى، طاووس بن كيسان: «أحب الله، حتى لا يكون شىء أحب إليك منه؛ واخش الله، حتى لا يكون شىء أخوف عندك منه؛ وارجُ الله حتى لا يكون شىء أرجى عندك منه». ويرى بعض السلف، العبادة كالطائر؛ المحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان، يحسن الطائر طيرانه. ومتى قطع الرأس، مات الطائر. ومتى فقد الجناحان أو أحدهما، صار الطائر نهبة لكل صائد وكاسر. وقال بعض الصالحين: «لئن تجالس أناسًا يخوفونك حتى تأمن، خير لك من أن تجالس أناسًا يؤمنونك حتى تخاف. ومن فطنة المؤمن تغليبه الخوف فى حال الرخاء؛ وتغليبه الرجاء فى أوقات الشدة والمرض». فلقد ورد بحديث، الترمذى، «أن المعصوم صلى الله عليه وسلم، دخل على شاب وهو يحتضر؛ فسأله: كيف تجدك؟! فأجاب: والله يا رسول الله، إنى أرجو الله، وإنى أخاف ذنوبى. فقال له، صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان فى قلب عبدفى مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف».