يشير العنوان المسطور أعلاه، والذى استوحيته من حوار مع ابنتى ضحى، إلى ذلك الرهط من أهل مكة، الذين عاشوا فى زمن الجاهلية. غير أنهم كانوا يُنكرون الوثنية، وينبذون ما تنطوى عليه من طقوس مقيتة، وممارسات مشينة. فلقد اهتدوا إلى ملة إبراهيم حنيفا، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وطفقوا يباشرونها فى مناسك الحج، وشعائر العبادة. كما اعتزلوا عبادة الأصنام، ورغبوا عن أكل، ما أهل لغير الله به، من الذبائح. وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: «كانوا نفرا من قريش، هم: زيد بن عمرو بن نفيل، ورقة بن نوفل، عثمان بن الحويرث، عبدالله بن جحش، وأمه أميمة بنت عبدالمطلب، وأخته زينب بنت جحش، التى تزوجها رسول الله ﷺ، بعد مولاه زيد بن حارثة.
من بين تلك الزمرة المباركة، برز نموذج، شهيد الحق، زيد بن عمرو بن نفيل. ذلكم الذى لم تستمله اليهودية، أو تستهويه النصرانية، فبقى متحنفا، ينتظر قدوم نبى آخر الزمان، إلى أن وافته منيته، وهو على ملة أبينا إبراهيم، خليل الرحمن. ففى العام التاسع عشر قبل الهجرة، الموافق 615 م، وبينما كان بطريق عودته من إحدى رحلاته، التى يتلمس فيها دين الله الحق، انقض عليه قوم من بنو لخم، بمضيعة من أرض البلقاء فى الشام، فأجهزوا عليه. وقد ذكر إمام التابعين، سعيد بن المسيب، أن زيد بن عمرو، توفى وقريش تبنى الكعبة، قبل أن يتنزل الوحى على رسول الله ﷺ بخمس سنين. ولقد حل به الموت، وهو يقول: «إنى على دين إِبراهيم».
أفنى، زيد، عمره ملتمسا سبل الهداية إلى الله، حيث ارتحل فى شبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، والعراق، باحثا عن الدين الحق، مترقبا نبى آخر الزمان. وهناك، قابل أحبارا من اليهود ورهبانا من النصارى، وعلم منهم أن نبيا سيبعث قرب بيت الله الحرام. إذ قالوا له: «ارجع فإن النبي الذى تنتظره يظهر في أرضك. فعاد زيد إلى مكة، منتظرا قدومه. وفى هذا، يقول ابن كثير، فى مؤلفه العمدة «البداية والنهاية: «خرج زيد إلى الشام، يسأل عن الدين القويم. فلقى حبرا يهوديا، فسأله عن دينه، مبديا رغبته فى اعتناقه. فقال له الحبر: لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. فقال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، فهل تدلنى على غيره. قال الحبر: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. فسأله زيد عن معنى الحنيف. فأجابه الحبر: هو دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وإنما يعبد الله الواحد، وكان يصلى ويسجد مستقبلا البيت الذى ببلادك. فالحق بأرضك، فإن الله يبعث فى قومك من يأتى بدين إبراهيم، وهو أكرم الخلق على الله». ثم تكرر الأمر نفسه مع راهب نصرانى.
بعد تدبره أقوال الحبر والراهب، عن إبراهيم عليه السلام، خرج، زيد، ليرفع يديه ويقول: «اللهم إنى أشهدك أنى على دين إبراهيم». وتؤكد روايات أخرى أن زيدا قد خرج إلى الشام، ومعه ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، فتنصروا جميعا، إلا زيدا. فقد بقى على فطرته من عبادة الله الواحد، متبعا ما أمكنه من دين أبيه إبراهيم، ثم رجع إلى مكة ينتظر بعثة النبى الخاتم. وما كاد يجاهر بعداء الأوثان، حتى تألبت عليه قريش، وأخرجوه من مكة. فقصد حراء، لكن عمه الخطاب، سلط عليه غلمانا يمنعونه من دخول مكة، فكان لا يدخلها إلا خفية.
متنوعة كانت مناقب زيد بن عمرو، فى الجاهلية. فقد روى يونس بن بكير، عن أسماء بنت أبى بكر، أنها قالت: «رأيت زيد بن عمرو، مسندا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: «يا معشر قريش، والذى نفسى بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيرى. اللهم إنى لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكنى لا أعلم، ثم يسجد على راحلته». وكان يقول أيضا: «يا معشر قريش، إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر. هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجرا، ولا أصلى له، ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم الأزلام، وإنما أصلى لهذا البيت، حتى ألقى ربى». وكان يحج، فيقف بعرفة، ثم يلبى فيقول: «لبيك لا شريك لك ولا ند لك». ثم يدفع من عرفة ماشيا، وهو يقول: «لبيك متعبدا مرقوقا». وقال موسى بن عقبة: «كان زيد يعيب على قريش ذبائحهم»، ويقول: «الشاة خلقها الله، وأنزل لها الماء من السماء، وأنبت لها الكلأ من الأرض، لم تذبحوها على غير اسم الله؟! إنكارا لذلك وإعظاما له». وقد أورد البخارى، أن زيدا كان يناهض وأد البنات، حيث كان يقول لمن يريد أن يئد ابنته: «لا تقتلها، فأنا أكفيك مؤنتها». فيأخذها ويربيها، حتى تترعرع، ثم يقول لأبيها: «إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها».
ويذكر بعض الرواة أن زيد بن عمرو، لقى الرسول غير مرة، قبل بعثته، صلى الله عليه وسلم. غير أنه لم يكن يعلم أنه النبى المنتظر، الذى طاف الأرض ترقبا له وبحثا عنه، قبل أن يقضى نحبه، دون إدراك بعثته. وجاء فى صحيح، البخارى، عن عبدالله بن عُمر، رضى الله عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم، لقى زيد بن عمرو بأسفل بلدح، قبل نزول الوحى. فإذا بسُفرة قدمت إليه، فأبى زيد أن يأكل منها، قائلا: «لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه». وقال الواقدى: حدثنى على بن عيسى الحكمى،عن عامر بن ربيعة، أنه قال: «قال لى زيد بن عمرو: «إنى خالفت قومى، واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكانا يصليان إلى هذه القبلة، وإنى لأنتظر نبيا من بنى إسماعيل، ثم من بنى عبدالمطلب، يبعث، ولا أرانى أدركه. وأنى لأومن به، وأصدقه، وأشهد أنه نبى. وسأخبرك ما نعته، حتى لا يخفى عليك .وإن طالت بك حياة، فأقرئه منى السلام».
اقتضت المشيئة الإلهية، ألا يذهب نضال، زيد بن عمرو،فى البحث عن الدين الحق، سدى. فقد روى عامر بن ربيعة، أنه بعدما أسلم، أخبر النبى بما كان من زيد، فرد صلى الله عليه وسلم السلام عليه، وترحم عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت زيدا فى الجنة يسحب ذيولا». وفى ذلك، يروى ابنه، الصحابى الجليل، سعيد بن زيد بن عمرو: «سألت الرسول، أنا وابن عمى عمر بن الخطاب،عن أبى»، فقال صلى الله عليه وسلم: «غفر الله له، ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم». وبإسناد جيد، روى محمد بن عثمان،عن جابر بن عبدالله، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئل عن زيد بن عمرو، بشأن استقباله القبلة، وسجوده فى الجاهلية، وقوله: «إلهى إله إبراهيم، ودينى دين إبراهيم». فقال النبى المجتبى: «يحشر ذاك أمة وحده بينى وبين عيسى بن مريم». وقال الباغندى،عن أبى سعيد الأشج، عن عائشة، رضى الله عنها، أنها قالت: «قال رسول الله ﷺ: دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين».
إبان احتضاره، كان زيد بن عمرو يقول، وهو ينازع سكرات الموت: «اللهم إن كنت قدَرت حرمانى صحبة نبيك، فلا تحرم منها ابنى سعيدا». وقد استجاب الخالق، جل فى علاه، دعاءه، حيث أدرك ابنه سعيد، البعثة النبوية الشريفة، وكان من بين المبكرين إلى الإسلام. ومن ثم، غدا من السابقين الأولين، كما أضحى من المقربين إلى سيد الخلق محمد. وقد ذكره صلى الله عليه وسلم، من بين العشرة المبشرين بالجنة.