رحلة أوباما فى فيتنام، تؤكد أن مسيرة التحول نحو آسيا وبخاصة نحو الشرق الأقصى فى السياسة الخارجية مستمرة، وإن تباطأت قليلا فى الشهور الأخيرة. الرحلة على قصر مدتها، تؤكد أيضا أن إدارة باراك أوباما، أفلحت فى رسم علامات واضحة فى مجال «إصلاح» السياسة الخارجية الأمريكية. صحيح أن زيارة أوباما لكوبا وما أسفرت عنه من اتفاقات وتحول فى مزاج الرأى العام فى البلدين، وعودة سلوكيات كوبية قديمة، كانت العلامة الأهم فى هذا المجال، ولكنه صحيح أيضا أن زيارة أوباما لفيتنام، قد تثبت أنها الأهم على المدى المتوسط والمدى الطويل.
***
كان غريبا، بالنسبة لشخص مثلى مهتم بتطورات الأحداث وعلى دراية بسلوكيات الشعوب، رؤية الناس فى شوارع مدينة هوشى منه «سايجون سابقا» وهى تحتشد رافعة الأعلام الأمريكية ومرحبة برئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة التى شنت على الشعب الفيتنامى حربا دامت عشر سنوات «من عام 1965 إلى عام 1975»، راح ضحيتها مليونان من الفيتناميين وأكثر من 57 ألف جندى أمريكى، وبددت أرصدة مالية وسياسية هائلة. كان غريبا أيضا أن لا تنتظم فى مدينة أمريكية كبيرة أو صغيرة وفى أى من جامعاتها مظاهرة يقودها أقارب وأصدقاء الآلاف الذين سقطوا أو سجنوا خلال الحرب. أقول كان غريبا لأننى كنت أحد الذين عاصروا عن قرب تمرد شباب أمريكا وأوروبا بل شباب العالم على حرب فيتنام، وهو التمرد الذى كان وبحق أحد أهم العوامل وراء جهود هنرى كيسنجر، لإنهاء الحرب ووراء سعيه للانفتاح على الصين الشعبية.
***
ما الذى حدث ليجعل الخصمين اللدودين، فيتنام وأمريكا، يسعيان لطى صفحة الماضى وإقناع شعبيهما بضرورات التعاون والتقارب؟ حدث الكثير. حدث أن النمو المذهل للصين خلال العقود الأخيرة، مرتفقا بدرجات متفاوتة من نمو أيضا مذهل فى دول آسيوية أخرى. حدث أيضا إن دخلت الولايات المتحدة، الدولة الأعظم القابضة على توازن القوى الدولى، مرحلة تباطؤ فى النمو والتوسع الرأسى فى الاقتصاد والبناء الداخلى يتبعه انحسار يناسبه فى النفوذ الدولى. هذا النمو الآسيوى المطلق من ناحية والانحسار الأمريكى النسبى من ناحية أخرى، كانا من بين المتغيرات التى شكلت خلفية سياسات توسعية من جانب الصين فى منطقة بحر الصين الجنوبى. هناك فى هذا البحر، توجد المصالح الأكبر لدولة فيتنام وبخاصة الدفاعات البحرية والثروات النفطية والجزر والصخور المتناثرة بكثرة فى البحر، وهى التى يمكن ببعض الجهد الربط بينها وإقامة مدن صناعية عسكرية وإنتاجية. التاريخ بعيده وقريبه، يثير فى الوعى الشعبى والاستراتيجى الفيتنامى ذكريات عداء متبادل لم تخف حدته فى أى عهد منذ عهود أباطرة الصين وحتى فى ظل العهد الشيوعى، حيث ما زال يحكم ويتحكم فى الدولتين حزبان شيوعيان.
***
هل كانت أمريكا البادئة بالسعى لإقامة علاقات تعاون محل علاقات الخصام أم كانت فيتنام؟ من الصعوبة بمكان الإجابة بدقة وثقة، فالواضح لنا مثلا هو أن أمريكا كانت شديدة الرغبة، لأن قطاعا مهما فى البنتاجون صار يرى أمن أمريكا مهددا إذا تحققت للصين الهيمنة واحتكار النفوذ فى منطقة بحر الصين الجنوبى. هذا القطاع يعتبر بحر الصين شريان التجارة بين دول جنوب آسيا وبينها وبين الدول الباسيفيكية ومنها، أو على رأسها، أمريكا. تمر فى هذا البحر ما قيمته 5.3 تريليون دولار، وفى أعماقه يوجد ما لا يقل عن 213 مليار برميل من النفط.
***
نحن الآن أكثر وعيا بالدور الحيوى الذى لعبه باراك أوباما منذ وصوله إلى الحكم فى 2008. ففى ذلك الحين ظهرت ملامح سلوكيات تهدئة فى تنفيذ السياسة الخارجية، بدأت مترددة ثم رسخت بالانسحاب الفعلى المتراكم من أفغانستان والعراق ورفض الاشتراك فى عمليات عسكرية برية فى أى مكان آخر. ظهرت أيضا من خلال جهود معلنة تسعى للانفتاح على خصوم تقليديين. بالنسبة لفيتنام كلف أوباما وزيرة خارجيته السيدة «هيلارى كلينتون» بزيارة هانوى. وفى 2014 سربت واشنطن نيتها تقديم تنازلات رمزية لتخفيف الحصار المفروض على فيتنام. وفى 2015 حلت زيارة السكرتير العام للحزب الشيوعى الفيتنامى لواشنطن حين وقع على اتفاقية شراكة بين البلدين.
***
ثم جاءت زيارة أوباما كواحدة من أعمال تتويج مرحلته فى الحكم. ذهب إلى هناك يحمل معه قرارا برفع الحظر عن تصدير السلاح إلى فيتنام. نسى أو تناسى أن يأخذ قرارا بفرض عقوبات جديدة إذا استمرت القيادة الفيتنامية الحاكمة فى قمع الحريات وخرق حقوق الانسان فى فيتنام. خاب أمل أنصار الحقوق والليبراليين. كان المقرر أن يقول كلاما لا أكثر. هؤلاء أرادوا أكثر. هؤلاء كأقرانهم فى كوبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية لا يصدقون أن هناك حدودا للقوة الأمريكية وقيودا عليها قد لا تظهر للشخص العادى. هؤلاء لا يدركون أن واشنطن ليست مطلقة القوة والنفوذ فى تعاملها مع أنظمة حكم فاشية أو سلطوية فى العالم النامى. البعض منا ربما لم يلاحظ أنه فى كل مرة تقرر دولة تسلطية فى العالم النامى التقارب مع أمريكا أو الدخول معها فى شراكة أو تحالف فإنها تسبق أقدامها على ذلك بزيادة القمع ضد شعوبها ومطاردة الشبان المتمردين على قوانين استثنائية أو النقص فى الحريات. حكومات هذه الدول أو بعضها على الأقل مستعدة، لأن تفقد صفقات سلاح أو معونات اقتصادية وتنموية إذا شعرت أن أمريكا ستكون جادة فى المطالبة برعاية الحقوق واحترام الحريات. أظن، بل وأعرف، أن واشنطن فهمت هذا الأمر مدركة وبحق أن بعض أنظمة الحكم فى الدول الصغيرة أقوى إرادة منها.
***
الآن وقد اقترب جدا موعد رحيل الرئيس أوباما وإدارته يتنافس رأيان فى أوساط المثقفين العرب. رأى يعتقد أن أوباما يحتفظ بورقة فلسطين يتوج بها ولايته. أصحاب هذا الرأى يقدمون حججا يمكن أن تكون مقنعة. بعضها يستند إلى تطورات ومبادرات ولقاءات وقعت بالفعل، وبعضها يضيف أحداثا وتوترات داخل إسرائيل تنبئ عن قادم جلل. أما الرأى الآخر فيعتقد أصحابه أن أوباما لن يكرر خطأ بيل كلينتون فيلوث عهده بقرار متسرع وخاطئ، استند فيه إلى كذبة كبرى وإلى أمل كاذب فى إمكان تحقيق تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
***
رأيى الشخصى يتلخص فى أنه لا يوجد تناقض بين الرأيين، وأن جهودا مهمة على وشك أن تتبلور تطورا خطيرا.