ليس إعلان دمشق وحده ما يجب أن نتذكره، ولكن قبله وبعده، هناك ما يستحق التذكر، والفهم، واستخلاص الدروس، فيما يتعلق بما يسمى الأمن العربى الجماعى.
قبل إعلان دمشق بأربعين سنة تقريبا صدر ميثاق الدفاع العربى المشترك، وبعد حوالى عقد من الزمان من هذا التاريخ أنشئت القيادة العربية الموحدة لتفعيل ذلك الميثاق.
و بعد حرب أكتوبر ساد تعبير «العرب قوة عسكرية وسياسية سادسة فى العالم»، ولتحقيق الحلم الذى بدا ممكنا آنذاك تأسست «الهيئة العربية للتصنيع» من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتى فى إنتاج السلاح، أما إعلان دمشق فقد صدر فى لحظة الزخم المتولدة من حرب تحرير الكويت من الغزو العراقى الإجرامى فى بداية تسعينيات القرن الماضى، بمشاركة مصر و سوريا والسعودية، ومن ثم فقد بدا أن مصر وسوريا ودول مجلس التعاون الخليجى الست يمكن أن تشكل معا نواة صلبة لنظام أمن جماعى عربى، حسب نص الإعلان الذى وقع فى العاصمة السورية، ونسب إليها.
وبعد إعلان دمشق بأكثر من عقدين من الزمان أطلق الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى مشروع القوة العربية الموحدة، وكانت تلك أيضا لحظة زخم أعقبت سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وسط حماس، وبمساندة خليجيتين، خاصة من السعودية والإمارات، لكن مصير هذا المشروع لم يكن أفضل من سابقيه.
تذكر هذا التاريخ المحبط لا يستهدف البكاء على أطلال الماضى، كما أنه لا يستهدف مجاراة الهجمة الاعلامية الشرسة على السعودية، والإمارات من جانب القوميين، واليساريين، والاسلاميين بسبب قيادتهما عملية الانضمام إلى تحالف جديد لمواجهة الإرهاب، والتهديد الايرانى، تؤسسه وتقوده الولايات المتحدة، وتشارك فيه إسرائيل، وإنما الهدف هنا هو ــ كما قلنا أعلاه – الفهم، واستخلاص الدروس، قبل الإدانة، والبكاء.
إن أى مراقب منصف – مهما يكن انتماؤه الإيديولوجى ــ لابد وأن يقر بأن إخفاق تلك القائمة المطولة من مشروعات الأمن الجماعى العربى، له أسبابه الموضوعية العميقة، فى البيئة المحلية لكل قطر عربى، وفى البيئة الإقليمية، وكذلك فى البيئة الدولية.
لنبدأ بالبيئة المحلية فى كل قطر عربى، ولنعترف بأنه لا توجد، ولم توجد دولة عربية واحدة منذ الاستقلال تمتلك الحد الأدنى من مقومات القوة الشاملة، باستثناء مصر المؤهلة دائما لذلك دون أن تحققه.
القوة الشاملة للدولة تتكون من نظام سياسى حديث ومستقر، ويحوز شرعية الرضا العام من مواطنيه، و قدرة اقتصادية ديناميكية، ومتنامية مرتكزة على التصنيع، والبحث العلمى، ومستوى فنى حديث للشعب ككل، ودرجة عالية من الاندماج الاجتماعى والثقافى فى المجتمع، بحيث تحل الولاءات الحديثة وعلى رأسها المواطنة والطبقة والاختيارات السياسية محل الولاءات البدائية، كالقبلية، والطائفية، والمناطقية، والفئوية، ثم جيوش حديثة تخضع للسلطة المدنية «المرضى عنها»، ودرجة معقولة من الاكتفاء الذاتى فى إنتاج السلاح.
بالتعبير العربى القديم فإن الإقرار بأن معظم هذه المقومات لا تتوافر للدول العربية منفردة ومجتمعة لا ينتطح فيه عنزان، أى لا يختلف فيه اثنان، فمن يملكون المال، لا يملكون العمق التاريخى أو الحجم الأمثل من السكان، أو المستوى الفنى المتقدم، أو الحداثة الاجتماعية والسياسية، ومن يملكون شيئا من ذلك لا يملكون الثروة، وكلهم مصابون بأدواء الفساد، والاستبداد، وعدم الرشد فى صنع واتخاذ القرارات الكبرى، (الأمثلة عبدالناصر وصدام والأسدان الأب والابن).
وإذن ومع الأسف الشديد عدنا إلى ذلك الزمان الذى قال فيه سعد زغلول لوفد سورى جاء يطلب الوحدة مع مصر فى خضم ثورة 1919، «إن حاصل جمع الأصفار هو صفر أيضا».
لكننا فى الحقيقة تراجعنا بأكثر من تشخيص سعد باشا للحالة العربية، وهنا يبدأ حديثنا عن البيئة الإقليمية، فاللحظة التى أطلق فيها زعيمنا المصرى الكبير هذه المقولة كانت مفعمة بآمال بناء الدولة الوطنية فوق الطوائف والمذاهب، والقبائل فى كل قطر عربى على حدة، وبآمال الوحدة العربية الشاملة فى المشرق على الأقل، أما لحظتنا هذه، فإنها لا تشهد فقط تبدد حلم الوحدة العربية، ولكنها تشهد أيضا تفتت الدولة الوطنية نفسها، فى سوريا ولبنان والعراق واليمن، و لا توجد دولة عربية غير مهددة بهذا التفتت، باستثناء مصر لأسباب بنيوية عميقة الجذور فى التاريخ، بل إنه لا ضمان لبقاء المملكة العربية السعودية كما نعرفها حاليا، سوى استمرار الأسرة المالكة قوية و موحدة، مهما يكن لنا عليها من تحفظات.
ومن التطورات غير المواتية للعرب فى البيئة الإقليمية أن جميع الجيران بلا استثناء، أحرزوا تقدما هائلا أو معقولا فى موازين القوى الشاملة، ونقصد هنا إسرائيل، وإيران وتركيا، وحتى إثيوبيا.
وماذا عن البيئية الدولية؟
المصارحة التى هى منهج هذا المقال من بدايته تقتضى أن نعترف بأن النظام (أو اللانظام) الإقليمى العربى حاليا هو تحت الهيمنة الاستراتيجية الأمريكية.
معالم هذه الهيمنة تتمثل فى الإمداد بالسلاح والتدريب، للجيوش، وفى ضمان أمريكى منذ رئاسة جون كيندى فى ستينيات القرن الماضى لحدود السعودية، ولنظامها السياسى، وقد امتد هذا الضمان لجميع دول الخليج حاليا، وطبق بنجاح فى حرب تحرير الكويت من غزو صدام حسين، كذلك فمن معالم تلك الهيمنة الضمان الأمريكى لاتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية، والاحتكار الأمريكى لمصير القضية الفلسطينية، ولا يقل أهمية عن ذلك كله، نصيب الأسد الأمريكى فى بترول الخليج، وعائداته المالية، فكيف يتصور عاقل أن تترك واشنطن للعرب حرية إقامة نظام مستقل أو شبه مستقل للأمن الجماعى، سيما إذا كانوا يفتقرون جميعا لمقومات القوة الشاملة، على نحو ما سبق شرحه؟! ثم كيف يتصور عاقل أن يقنع مواطن خليجى، وسعودى على وجه الخصوص بأن مثل هذا النظام كاف لحفظ أمن بلاده وبقية المنطقة؟!
فإذا أضيف إلى تلك المعالم، أن الولايات المتحدة، وحلفاءها فى أوروبا الغربية أصبحوا هدفا «للإرهاب المتأسلم»، و ميدانا له، فلا مفر من أن تطلب واشنطن قيادة التحالف الإقليمى ضد هذا الإرهاب، و لا مفر من أن يستجاب لها بشروطها، والتى يأتى التقارب مع إسرائيل فى مقدمتها، ولو على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة، جنبا إلى جنب مع التمويل الخليجى لهذا التحالف.
******************************************
قلنا قبل عدة فقرات إن الهدف من هذه السطور ليس البكاء على الماضى، وليس إدانة أحد، وإنما الهدف هو الفهم واستخلاص الدروس.
الفهم يقتضى – زيادة على ما سبق – الاعتراف بحق السعودية وبقية الأشقاء فى الخليج فى القلق، بل والشعور بالخطر من محاصرة النفوذ الايرانى الشيعى شمالا وجنوبا وشرقا، ومن داخل بلدانهم من خلال المواطنين الشيعة فى هذه البلدان، و من ثم علينا أن نعترف بحق السعودية وكل دول الخليج فى البحث عن أنجع وسائل ردع هذا الخطر.
إلا أن الفهم يحتم علينا كذلك أن نعترف أن إيران لا تغزو، ولم تغز بلدا عربيا، أو حتى غير عربى، ولكنها تلهم وتساعد السكان الشيعة الذين هم مواطنون أصلاء فى بلادهم، وهذا تخريب وعدوان بلا شك، إلا أن الجيوش النظامية ليست هى أفضل أو «أول» رادع لهذا النوع من التدخل، إلا فى حالة التمرد المسلح كحالة الحوثيين فى اليمن، وإنما الرادع الأنجع هو بناء نظام سياسى واجتماعى لا يميز بين مواطن وآخر، بسبب المعتقدات المذهبية، وبالطبع فإننا نعلم أن الطريق هنا طويل وشاق، ولكن فلنبدأ، ولماذا لا تكون الخطوة الأولى إقامة نموذج خليجى للتقريب بين المذاهب الاسلامية، بدءا من الكويت والإمارات، باعتبار أن المجتمع فى الدولتين أقل تزمتا من المجتمع السعودى، وأهدأ أوضاعا من المجتمع البحرينى.
ومن مقتضيات الفهم أيضا أن الحكام العرب جميعا يؤمنون بأن التقارب مع إسرائيل كفيل بفتح مغاليق واشنطن، وكان لمصر قصب السبق فى ذلك منذ الرئيس السادات، ومرورا بحسنى مبارك، وابنه، وفى سنة حكم جماعة الاخوان، والآن أيضا، فإذا كان ذلك الإيمان صحيحا فى جزء منه، إلا أنه ليس صحيحا على إطلاقه، إذ لدى العرب ما يمكنهم من تحسين شروط التفاوض مع واشنطن بمنأى عن إسرائيل، بل ومع إسرائيل نفسها لمصلحة الفلسطينيين، والمعنى أنه يجب على السعودية والخليج مقايضة جائزة الانفتاح التجارى والاقتصادى مع إسرائيل ــ الذى طلبه منهم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ــ بالحل العادل للقضية الفلسطينية، وليس بدور إسرائيلى محتمل فى التحالف ضد إيران، إذ إن هذا الدور لن يزيد عن الأعمال «المخابراتية» بما أن ترامب نفسه التزم بعدم محاربة الإرهاب نيابة عن العرب، وبما أن من مقدسات إسرائيل أن الدم اليهودى لا يراق إلا من أجل اليهود فقط، وإذا واصلنا مصارحة أنفسنا، فهذا التحالف ليس أكثر من مظلة لدمج إسرائيل فى المنطقة برضا الشعوب العربية، دون أى ضمان لحماية العرب مستقبلا من إسرائيل نفسها، المعززة بتفوق عسكرى دائم، وبسلاح نووى، فضلا عن تقنين ومنهجة الاستنزاف المالى للخليج، فى انتظار زمان عربى جديد، وما ذلك على الله بعزيز.