سبعون حولا طويت على حراك يوليو 1952، ولا يزال الجدل الفكرى محتدما بشأن الاجتهادات العلمية الرامية إلى توصيفه سوسيولوجيا. فبين ثنايا أطوار الحركة، والانقلاب، والثورة، تتفاعل فى أعماق ذاكرتنا الوطنية، ملامح واقعة أسهمت فى تغيير مجرى التاريخ المصرى الحديث. حتى امتدت أصداؤها المدوية، فى زمانها، لتطبع بصماتها البارزة، على تطورات الأحداث ومآلات التفاعلات،على الصعيدين الإقليمى والدولى.
بتحليل مضمون البيانات الصادرة تباعا عن حركة الضباط الأحرار فى مهدها. يبدو الأمر تحركا من لدن تنظيم سرى يضم 99 ضابطا، من صغار ومتوسطى الرتب العسكرية. يقوده مجلس قيادة مكون من 11 ضابطا، يتقدمهم البكباشى جمال عبدالناصر، ويترأسهم اللواء أركان حرب محمد نجيب، الذى كان بمثابة واجهة شرفية للحراك أمام الشعب. ولم يستنكف أبطال المشهد، فى بادئ الأمر،عن اعتباره تحركا تصحيحيا، بغية إدخال إصلاحات جوهرية على بنية الجيش، عقب الهزيمة المدوية فى حرب فلسطين عام 1948، وما كشفت عنه من قصور فى هيكله، وفساد وترهل قيادته. لذلك، جاء مانشيت جريدة «الأهرام» صبيحة اليوم التالى للحراك، «الجيش يقوم بحركة عسكرية سلمية».
فى غضون ساعات، تمكنت الحركة من بسط سيطرتها على قيادة الجيش، عبر كوادرها من شباب الضباط فى مختلف الوحدات. وظلت بياناتها كافة تؤكد الالتزام باحترام الدستور، وتتجنب التطرق إلى مصير نظام الحكم الملكى. بيد أن اتساع دائرة التأييد الجماهيرى للحراك، شجع قادته على رفع سقف تطلعاتهم تدريجيا. فلم تمض أيام قلائل، حتى طالبوا الملك فاروق، بتسمية رئيس وزراء جديد لتشكيل الحكومة. وفى 26 يوليو، كانت بدايات النقلة النوعية مع إجبار الملك على التنازل عن العرش لولى عهده، ومغادرة البلاد، على أن يتم تعيين مجلس وصاية على عرش الملك الرضيع. وفى 18 يونيو 1953، صدر قرار مجلس قيادة الثورة بإنهاء حكم أسرة محمد على، وإسقاط الملَكية، وإعلان الجمهورية، التى أضحى اللواء محمد نجيب، أول رئيس لها. وهى الإجراءات التصعيدية، التى أعطت إشعارا رسميا لتغيير نظام الحكم بالقوة المسلحة، ضمن سياق ما لم يتورع قادة الحركة عن اعتباره «انقلابا عسكريا» كلاسيكيا، على نظام ملكى فاسد. فدونما مواربة، هيمن الجيش على شئون الحكم ومقاليد الأمور، من رئاسة الدولة، والحكومة، إلى السيطرة على مؤسسات البلاد قاطبة.
من جانبهم، انبرى مفكرون، ومراقبون، وقادة رأى، وقتذاك، فى تأطير ما يجرى، سوسيولوجيا. ودونما إبطاء، نعتها الأديب الكبير، توفيق الحكيم، «الحركة المباركة». وهو التوصيف الذى استقاه من كتابه الصادر عام 1945، بعنوان: «شجرة الحكم». ذلك الذى توقع فيه اندلاع هبة جماهيرية، أو انتفاضة شعبية، تحمل ذات المسمى، لتقلب الأوضاع المختلة والمهترئة فى المجتمع، رأسا على عقب، وتعبر بالوطن نحو غد أفضل. وأثناء دراسته فى فرنسا قبلها بقرابة عقدين من الزمن، أتم الحكيم، عام 1927 كتابة رواية «عودة الروح»، التى نشرها سنة 1933. وكسائر إبداعات أدباء جيله، جاءت الرواية نتاجا لمفاعيل أدبية وسياسية، تأثر بها الحكيم إبان حقبة ما بين الحربين العالميتين. لعل أبرزها ثورة 1919، التى جسدت الانتصار للفكرة القومية، وجددت الآمال فى هندسة معالم الشخصية الوطنية المصرية. فلقد سلط الحكيم الضوء على تمازج الصحوة الروحية للإنسان، مع النهضة الحضارية للأمة. وتجلت فى روايته، الإرادة الشعبية والروح المشتركة اللتين تمثلتا فى أسرة واحدة، اجتمعت فيها جل صفات ومعاناة الشعب المصرى. إذ كابدت محنة، أشبه بمرحلة المخاض التى عايشتها الأمة جمعاء عام 1919، حتى تلاقت أفئدتها حول الرمز الوطنى سعد زغلول. وحينئذ، تستنهض عزائم أبنائها، وتسترد روح المثابرة والنضال، لتتصدى للتحديات وتتجاوز منعطفاتها التاريخية المصيرية.
هكذا إذا، تنبأت رواية «عودة الروح» بثورة يوليو، قبل تفجرها بثلاثين عاما، حينما تحدثت عن فكرة الزعيم، أو النبراس الثورى، الذى يأتلف الناس من حوله، لإنقاذ البلاد والعباد. وبإشارتها إلى المُخلص والمُنقذ الوطنى، الذى يهب ليوقظ الأمة من رقادها، أسهمت الرواية فى تشكيل وجدان وقناعات الضابط الشاب جمال عبدالناصر، كما غدت مصدر إلهام لأفكاره وتصوراته الحالمة بشأن مستقبل بلاده وأمته. كأننا به وقد رأى فى ذاته ذلك الأمل المنتظر، ومن ثم هُرع إلى بناء تنظيم الضباط الأحرار، داخل الجيش والشرطة، توطئة لتفجير حراك يوليو 1952. ولطالما بقى عبدالناصر يكن تقديرا خاصا وإكبارا نادرا للرواية ومؤلفها، حتى إنه استثناه من قرارات لجان التطهير، واستبقاه رئيسا لدار الكتب، وهو المنصب الذى كان قد تبوأه قبل عام من اندلاع الثورة. كما منحه قلادة الجمهورية عام 1958، وهوأعلى وسام مصرى، فى حينها.
ما كاد الحول يحول على انطلاق حراك يوليو 1952، حتى بدأ يتوارى توصيف «الحركة المباركة»، مفسحا المجال لمصطلح «الثورة»، الذى بدأ يتردد، على استحياء، فى دعوات انبثقت من اجتهادات أرباب الفكر وأصحاب الأقلام. فبحماس جم، أسبغ عليه عميد الأدب العربى، الدكتورطه حسين، اصطلاح «ثورة»، متوسما فيها تحقيق حلمه بمجانية التعليم فى مصر. وقد كان، حيث أقرها دستور 1956، وكفلتها قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961. وعلى صفحات جريدة «الجمهورية»، سطر، العميد، عدة مقالات، احتفى فيها بذلك الحدث، الذى أكد جدارته بوصف «الثورة». وتحت عنوان «صورة»، استهل فى الثانى من أغسطس 1952، سلسلة من المقالات بصحيفة «الأهرام»، عبرخلالها عن فخره بالثورة، داعيا إلى أخرى «ثقافية»، بموازاة تلك السياسية والاجتماعية. وفى مذكراته، أورد، ثروت عكاشة، أن صفحات مجلة «التحرير» الناطقة، التى أصدرها ثوار يوليو، احتضنت صيحة طه حسين، الرافضة لنعت ما حدث يوم 23 يوليو 1952، بنعوت من قبيل: «الحركة المباركة»، أو«النهضة»، مشددا على أن يحمل مسمى «ثورة».
بدورهما، تنازع كل من محمد فريد أبو حديد، وسيد قطب، قصب السبق فى إطلاق وصف «ثورة» على أحداث 23 يوليو 1952. لكن قطب، كان يعتبر نفسه مُنظر الحراك، ذلك أنه قد اختير مستشارا لمجلس قيادة الثورة للشئون الثقافية والعمالية، وكان المدنى الوحيد الذى يحضر جلساته. وفور إعلان تأسيس «هيئة التحرير» فى يناير 1953،عُين سكرتيرا عاما مساعدا لها. وبعيد أيام من اندلاع الحدث الجلل، نشر قطب تسع مقالات متتالية بمجلة «روزاليوسف»، استهلها فى الثامن من أغسطس 1952، بمقال عنوانه: «إذا لم تكن ثورة فحاكموا محمد نجيب!»، وصف فيه ما جرى بأنه «أعظم انقلاب فى تاريخ مصر الحديثة على الإطلاق». وفى مقاله الخامس، بهذه السلسلة المثيرة، والمعنون: «لسنا عبيدا لأحد»، ذكر قطب: «إن ثورة 23 يوليو 1952، ثورة شعبية مقدسة، وليست سوى الامتداد الطبيعى المباشر لثورة عرابى فى 9 سبتمبر سنة 1881. فكلتاهما ثورة قام بها الجيش باسم الشعب، وكلتاهما ترميان إلى تحطيم الأرستقراطية، وإعلان حقوق الشعب».
يطيب لمؤرخين كُثْرٌاعتبار أحداث يوليو 1952، ثورة حقيقية، بدلت وجه الحياة فى مصر ومحيطها، جراء ما خلفته من تداعيات عميقة الأثر فى هيكل الدولة، وبنية المجتمع، كما مسارات العلاقات الدولية، على مدى عقدين من الزمن. غير أن رهطا من الباحثين يراها ثورة منقوصة، حيث لم تحقق كل أهدافها الستة، التى تبلورت طيلة فترة الاختمار الثورى، خصوصا هدف إقامة حياة ديمقراطية سليمة. وإلى جانب عوامل مثبطة عديدة فى الداخل والخارج، جاء فى صدارتها تآمر الثورة المضادة، والرجعية، والاستعمار،عزى عبدالناصر، فى الباب الأول من «الميثاق الوطنى»،الذى قدمه لمؤتمرالقوى الشعبية فى مايو 1962، مثل هذا القصور، إلى افتقاد حراك يوليو للمرجعية الفكرية العلمية، والبنى التنظيمية المتماسكة. إذ أبصر النور بغير تنظيم سياسى ثورى مُمَأسس، ودونما نظرية سياسية شاملة ومتكاملة للتغيير الثورى. فباستثناء التكوينات الزبائنية الوظيفية الشكلية، وبيانات قادة الحراك، ومبادئه الستة، وخطب عبدالناصر، التى أعيدت صياغتها بإسهاب فى «الميثاق الوطنى»، غابت السرديات الثورية المُلهمة، وتوارت الهياكل المؤسسية الناظمة.
يروق لنفر من المراقبين الذهاب إلى أن الفعل الثورى، الذى انطلقت شرارته فى يوليو 1952، لم يتحسس دربه العسير صوب النضوج الفعلى، إلا عقب هزيمة 1967. فعلى إثرها، بدأ الرمز المُلهم، يهوى من عليائه، ليلملم شتات كبريائه، ويجنح، ولو بحذر يشوبه التردد، للاعتراف ببعض الأخطاء، والتماس شىء من المراجعة والنقد الذاتى، رهبا من قسوة التاريخ، ورغبا فى تصحيح المسار. غير أن ذلك النضج المتأخر، ما لبث أن تحول إلى ذبول مبكر، جراء الترجل المفاجئ والمفجع للفارس الهمام فى سبتمبر 1970، وما تلاه من انعطافة ساداتية جارفة صوب وجهة مغايرة.