ثنائية التقليد والحداثة - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثنائية التقليد والحداثة

نشر فى : الثلاثاء 25 يوليه 2023 - 6:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 يوليه 2023 - 6:45 م

يتنازع الفكر النهضوى والتنموى الحديث وجهتا نظر: أولاهما تقوم على التقليد والتقاليد، وثانيتهما تقوم على اتباع سبيل الحداثة والتحديث على الأنموذج «الغربى ــ الأوروبى».
فأما التقليد والتقاليد فإن لها جذورا عميقة تضرب أطنابها فى أعماق التاريخ، لا سيما الشرقى والعربى والإسلامى والعالم ــ ثالثى. وذلك بدءا من «حضارة الشرق الأدنى القديم» على الساحة العربية والأوسطية بالذات، إلى حضارة الصين والهند والسند وما إليها على الساحة المحيطية للمشترك «الهندى ــ الباسيفيكى». ولطالما عجّت الساحات الحضارية القديمة لمصر ووادى النيل، وما بين «النهرين» وفلسطين وما حولها حتى الساحل السورى بالمعنى الواسع (بما فيه اللبنانى) بتقاليد حضارية عميقة عريقة، ممتدة رأسيا وعريضة، فى الميدانين الأثيرين للتكوين الحضارى، أى الثقافة Culture والمدنية Civilization، بمعنى الامتداد الفكرى ــ اللغوى، من ناحية، والعمق العمرانى بما فيه هندسة البناء والتشييد والإنشاءات، من ناحية أخرى.
ومن حول الثقافة والمدنية، كانت هنالك فنون الحرب والقتال، لإحاطة معصم الحضارة بميسم القوة العتيد. وقل مثل ذلك عن بناء «مناطق النفوذ» من خلال هيمنات متعددة، متفاوتة المدى والمدّة، على مر الزمان وأخاديد المكان.
ولسنا بحاجة إلى ترداد المآثر الحضارية الكبرى، بل العظمى، فيما سقناها من بلدان، من الصين إلى فينيقيا، وما حولها جميعا، ومن حضارات «الإنكا» إلى بلدان الزنج العريقة حول الأنهار أو من غيرها.
تلك نهضة، ونهضات، سادت ثم بادت، وكانت، ولم تزل، بصماتها الأثيرة، تملأ ساحات الزمان والمكان، حتى هنا والآن.
• • •
ولما انقشع غبار العصور القديمة انبلج ضياء العصور الوسيطة، لتلمع بشموع حضارية مزدهرة، لاسيّما فيما يسمى الآن بالمنطقة العربية ــ الإسلامية، من شبه الجزيرة العربية ووادى الرافدين وبلدان آسيا الوسطى إلى أفريقيا شمال الصحراء وأواسطها. ولعل أبرز الشموع الحضارية تلك كانت فى المنطقة التى أمكن تسميتها (أفريقاسيا) وكانت مصطلحات المستشرقين تسميها «سامية ــ حامية»، وأبرز تفرعات أرومتها الحضارية، الحضارة والثقافة المرتدية لباس اللغة القشيب المتجدد، اللغة العربية بالذات، باعتبارها الأكثر إنتاجا على الصعيد الثقافى العريق.
وقد شهد العالم والعصر الأوسطى ــ المتوسطى تراثا حضاريا، تمدينيّا وفكريا، أشعّ من حوله حتى الشاطئ الآخر للبحر الأحمر والبحر المتوسط، وما بعدهما.
تشاء الأقدار أن تكون لمعات التقدم الحضارى مغرية باتباع سبيل التقليد لمن يأتى من بعد السابقين، من طرف اللاحقين، ويكون نهج التقليد فى الأزمان المتأخرة سبيلا لمحاولة النهضة..!
• • •
وخذ مثالا قويا على ذلك من «الحضارة العربية/الإسلامية» نبتة شبه الجزيرة والرافدين وفارس ومغول الهند المسلمين، فقد أغرت لمحاتها الحضارية باتباع نهجها وتقليدها ومع تجاوزها بالكاد. وظل ذلك قائما مع دخول «الترك» إلى ساحة الحضارة الإسلامية، بعد انطفاء شعلة شبه الجزيرة والرافدين، وشطر من فارس، وحينئذ قفز الترك من هضبة الأناضول إلى الشمال وشرقا وغربا وجنوبا، حتى غدت ما سميت بـ«الدولة العثمانية» دّرة العالم الإسلامى، وحامية حماه، طوال العصور الحديثة التالية مباشرة للعصر الوسيط، فى وجه الأطماع الأوروبية الاستعمارية الحديثة.
كانت الحلقات المتتالية المتمركزة حول شبه الجزيرة والرافدين وفارس، ثم الأناضول، مغرية، لاتباعها على مر الدهور، باتباعها وليس تجاوزها. ذلك نهج «التقليد». ومن أسف أن العصر الحديث الذى شهد انبثاق الفكر النهضوى على الصعيد الكونى، هو الذى شهد انبثاق وتوسع فكر «التقليد».
وكان الركود الثقافى والحضارى طوال العصرين التركى والمملوكى من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر أبرز علامات نهج «التقليد» الاتباعى، حيث «الشرح على المتون» وليس التأليف الأصيل. وحين اقتصر التجديد العمرانى على عمارة المساجد، مع عظمتها بلا شك، دون محاولة البناء المادى على قاعدة الحرف التراثية، لخلق وابتكار قاعدة بنائية، سميت فى العصر الأوروبى الحديث بالصناعة والتصنيع.
ذلك ما رأيناه فى بلداننا العربية مثلا، حيث كان الركود قرين التقليد، وكان التقليد نهج العمل، وليس التجديد الأصيل.
ومع انبلاج القرن التاسع عشر بالذات، مع تجذّر التقليد، وفكر الركود، جاء النقيض ممثلا فى اتباع نهج «الغالبين» من أوروبا، فى السير على خطاهم الحداثية اعتبارا من القرن السادس عشر. وكانت الحداثة الغربية ــ الأوروبية هى النهج الذى اتبعه الآخرون غير القائمين بالتقليد.
ولما دخل الفكر والعمل «حقل العمل النهضوى» ثقافة وعمرانا، جاء «التحديث» حتى فى المجال التنموى ليملأ الفراغ، ويكون بذلك، التقليد والتحديث على النسق الغربى، نقيضين يتعايشان. ولكن كلا من التقليد والتحديث على النمط الغربى، لا يغنيان عن العمل المنتظر لما نسميه «استئناف التطور الحضارى» كسبيل للتنمية الأصيلة الحقة، لمحاولة وصل ما انقطع من تاريخنا الحضارى وهو ما نحاول معالجته فى المقال المقبل.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات