الندرة تتمدد - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الندرة تتمدد

نشر فى : الأربعاء 25 سبتمبر 2013 - 8:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 25 سبتمبر 2013 - 8:45 ص

الأصل فى حياتنا، كما يشيع الاقتصاديون، هو الندرة. فالعمر سنوات امتدت أم قصرت تظل معدودة. والثروة أموال وعقارات زادت أم نقصت تظل محدودة. والعلاقات حميمية أم وظيفية كثرت أم قلت تبقى بحكم ندرة الوقت والثروة، يحدها سقف لا تعلو عليه.

•••

نعانى، أفرادا ومجتمعات، من ندرة شيء أو آخر. يعانى بعضنا من ندرة المال وبعض آخر من ندرة الطعام وثالث من ندرة الوقت ورابع من ندرة العلاقات مع الآخرين. نعرف الندرة، وتأتى المعاناة من قسوة الشعور بالندرة. ما زلنا لا نعرف الكفاية عن التغييرات التى يمكن أن تفرضها هذه المعاناة على سلوك الإنسان وأخلاقه وطريقة تفكيره؟ سؤال من بين أسئلة كثيرة طرحها للبحث الأكاديمى اثنان من الأساتذة الكبارMullainathan , Shafir ، وجاءت نتائج البحث مثيرة وإن بدت فى ظاهرها منطقية وبسيطة.

•••

كيف يتصرف الجائع إذا لم يجد ما يسد رمقه؟. نعرف أن الرضيع إذا جاع ولم يجد مرضعته إلى جانبه فور شعوره بالحاجة إلى الحليب لن تسكته مداعبة أو زجرة ولن تهدئ من ثورته محاولات تسليته بأصوات تصدرها لعب بلاستيكية أو ابتهالات أم منهكة وصرخات أب لا يقدّر. هذا الرضيع لن يلهيه شىء عن معاناته بالجوع ولن يفكر إلا فى ثدى مرضعته وكيفية الوصول إليه.

ويشب الرضيع طفلا ثم شابا ثم رجلا أو امرأة، ويبقى التصرف واحدا إذا نال منه الجوع. لن يفكر فى شيء آخر غير الطعام. سوف يركز كل تفكيره وحواسه على أمر واحد. لن يفكر فى وضع خطة أو مشروع طويل الأمد يضمن له حياة بلا جوع، بل إن الدراسات كافة توحى بأن الجوع إذا استبد بإنسان فإن هذا الانسان سيتوقف عن التفكير فى مستقبل أيامه وعمله وأحلامه.

•••

يقولون إن الفقير المعدم يرى العملة المعدنية، كالجنيه مثلا، أكبر من حجمه الحقيقى، لا لشيء إلا لأنه لا يرى أن هناك ما يمكن أن يكون أهم من الجنيه فى تلك اللحظة. قيل أيضا إن الجائع يرى رغيف الخبز فى جمال صفحة القمر. وهكذا يجب أن نفهم ونقدر حال الإنسان الذى يعانى من الشعور بالوحدة حين يرى العلاقة القائمة بين اثنين يعرفهما عن قرب أو يراقبهما أجمل وأروع العلاقات التى مرت عليه فى حياته بل ويراها أجمل وأروع مما هى فى حقيقتها. يحلم بمثلها ولكن غلبه اليأس.

يصفون الشخص الذى يعانى من الشعور بالندرة، ندرة الطعام أو الشراب أو الوقت أو العلاقات، بشخص انحشر فى نفق ضيق ومظلم. لا يرى بعيدا ولا يملك القدرة الكافية للسيطرة على مشاعر ورغبات أخرى. ينقصه الذكاء وسرعة البديهة، يفتقر إلى الحس بضرورة تحسين فرصه وقدراته وتوظيف مواهبه، وهو أيضا جاهز للغضب السريع ونفاد الصبر وأحيانا كثيرة يتهور إن اشتدت به الحاجة.

نسمع أحيانا أصواتا كئيبة تنشر الزعم بأن «الندرة مصيدة ذاتية»، بمعنى أنها بارعة فى اجتذاب «ندرات» أخرى أو تتسبب فيها. يضربون المثل بالشخص الذى يعانى من الشعور بالوحدة نتيجة «ندرة» فى علاقاته الإنسانية وبخاصة العاطفية، فهو فى الغالب شخص لا يهتم بعمله ولا يتقن وظائفه. معروف عنه انه فاقد الثقة بنفسه وضعيف الإرادة وممل بل وطارد للناس. والسبب الذى توصل إليه الباحثان هو أن هذا الشخص يركز على نقطة ضعفه التى هى ندرة علاقاته فيقل اهتمامه بتنمية إمكاناته الأخرى.

كذلك حال الجائع. لا أحد يطلب من الجائع أن يبحث عن أصدقاء جدد أو أن يهتم أكثر بأفراد عائلته وأصدقائه القدامى أو أن ينتج فكرا جديدا ويبتكر اختراعا. لا نطلب من جائع أن يرفه عن نفسه بسماع الموسيقى أو مشاهدة رقص الباليه، ولا نطلب منه أن يحلم بعلاقة عاطفية ويستعد لها بتنشيط حواس الحب وخلق الأجواء المناسبة له. لن نطلب منه لأننا نعرف أن الجائع لن يحلم إلا بسوق العيش.

•••

نشأنا على أفكار من نوع أن الفقراء مسئولون عن الندرة التى يعانون منها. هم كسالى، غير مبالين، غير متعلمين... إلخ. ثم نضجنا على أفكار ان الدولة والمجتمع مسئولان عن فقر الفقراء وشعورهم بالندرة، لأنهما درجتا على تجاهلهم أو فى أحسن الأحوال جربتا تقديم الدعم المادى لهم. هذا الدعم الذى يدفعهم إلى مزيد من تركيز تفكيرهم على فقرهم وإهمال أمور أخرى فى حياتهم.

الدعم النقدى لن يحل مشكلة الفقر. المهم أن تخفف الدولة من عواقب تركيز الفقراء على الجوع أو الفقر. هذا التركيز يشل عقل الفقير لأنه يحرمه من الوقت أو الجهد اللازم للتفكير فى حل مشكلات حياتية أخرى مثل رعاية صحة الأطفال وتعليمهم وتحسين أماكن عيشهم والتدبر فى أمر «غد أفضل». أمكن تحقيق شيء من ذلك حين جربت بعض الدول الذهاب إليهم حيث هم فى أحيائهم وقراهم باستمارات التسجيل بالمدارس ووثائق الانتفاع بالتأمينات الصحية والاجتماعية ليملأوها أو لتملأها لهم الدولة وتوفر عليهم تعقيدات الدوران فى دهاليز الحكومة وتعفيهم من امتهان الكرامة.

•••

أرجو ألا نستهين بالمعاناة الناتجة عن حالة التشققات الاجتماعية والعائلية التى تجتاح مصر مهددة أسس العلاقات الانسانية فى المجتمع. ففى ظروف تكاد الندرة تمس معظم جوانب الحياة المصرية، لن يتمكن حاكم أيا كانت سطوته أو شعبيته أن يكسر هذه الدائرة قبل أن يستحكم غلقها، دائرة تمدد «الندرات» وترابطها. نعيد السؤال: كيف سيكون سلوك الإنسان المصرى إذا اجتمعت عليه فى وقت واحد « «ندرات» متعددة؟.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي