لجأ عدد من المحلِلين السياسيين منذ الكشف عن نتيجة المرحلة الأولى للاستفتاء على مشروع الدستور إلى استعراض مقارن لنتائج الاستفتاءات على دساتير عدد من البلدان الديمقراطية، فى أوروبا بشكل خاص. هذا اللجوء إلى الاستعراض المقارن محمود ويشكر لمن قاموا به لسببين. السبب الأول هو أنه يبغى إدخال الطمأنينة على المصريين، فهو يؤكد لهم أن بلدهم العتيق محافظ على وحدته، وهو فى مأمن من الانقسام، حتى ولو انقسمت أصواتهم ومرَ الدستور بالكاد. أما السبب الثانى فهو يكمن فى نفس منطق المقارنة، لأن فيه تسليما بأن مصر مثل غيرها من البلدان، وشعبها مثل غيره من الشعوب، لا خصوصية له عندما يتعلق الأمر بتنظيم الحكم، وبالتالى بما للدولة من صلاحيات وما عليها من قيود، وبما يستبقيه الشعب لنفسه من حقوق، على الدولة حمايتها وعدم الافتئات عليها. هذا عن محاسن الاستعراض المقارن، أما عن فساد المقارنة والنتائج التى وصلت إليها فهى عديدة.
لم يتطرق المحلِلون المذكورون إلى فوارق جوهرية فى الحياة السياسية الفرنسية فى السنوات السابقة على صياغة الدستور الفرنسى لسنة 1946 عن الحياة السياسية المصرية ومواتها فى سنوات مبارك الأخيرة السابقة على صياغة دستور 2012، ولا إلى فوارق لا تقل أهمية فى عملية صياغة كل دستور منهما، ولا أخيرا إلى الفوارق فى أوجه الخلاف بين الموافقين والمعارضين لمشروعى الدستورين. فى النصف الأول من الأربعينيات من القرن الماضى، نشطت كل الاتجاهات والأحزاب الوطنية الفرنسية فى مقاومة الاحتلال النازى والمتعاونين الفرنسيين معه، أى أنها خاضت العمل الميدانى واكتسبت شرعيتها وشعبيتها من مقاومة النازى. هذه هى حالة الجنرال ديجول وأتباعه، من ناحية، وحالة الحزب الشيوعى الفرنسى والاشتراكيين، والديمقراطيين المسيحيين، وغيرهم، من ناحية ثانية. بعبارة أخرى، كانت الحياة الوطنية محتدمة عندما جرى انتخاب البرلمان فى أكتوبر 1945 واستفتى الشعب، وهو يقظ تمام اليقظة، على ما إذا كان يريد منح هذا البرلمان سلطات تأسيسية. بشأن خلفية صياغة دستور الجمهورية الربعة، من المفيد أيضا الإشارة إلى أن المرأة الفرنسية مارست لأول مرة حق الانتخاب بمناسبة تشكيل الجمعية التأسيسة الأولى، أى أن الاتجاه كان نحو التوسع فى حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل، ولم يكن الاتجاه إلى التضييق على هذه الحقوق أو إلى التضييق فى الإفصاح عنها على أقل تقدير، وإلى إنكار مبدأ مساواة المرأة بالرجل، وهو ما يقع فى صلب العملية التأسيسية المصرية، وليس فى خلفياتها فقط.
الجمعية التأسيسية الفرنسية الأولى انعقدت الأغلبية المطلقة فيها لليسار، للحزب الاشتراكى وللحزب الشيوعى، وكانت القوة السياسية الثالثة بعدهما هى حركة الديمقراطيين المسيحيين. مشروع الدستور الذى رفضه الفرنسيون فى مايو 1945 كان قد اعتمد فى الجمعية التاسيسية بأصوات اليسار وحده، المزهو ببطولته الوطنية فى مقاومة النازى وبالتأييد الشعبى الواسع له، وبدون أصوات الديمقراطيين المسيحيين. أما الخلاف بشأن مشروع الدستور المرفوض فلم يكن حول الصلاحيات التى يوكلها الشعب للدولة ولا حول الحقوق التى يستبقيها لنفسه. الخلاف كان حول توزيع السلطات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وبشكل خاص حول صلاحيات مجلس الشيوخ. فى الجمعية التأسيسية الثانية، أصبحت الأغلبية النسبية للديمقراطيين المسيحيين، يليهم الشيوعيون ثم الاشتراكيون، واعتمد مشروع الدستور فى الجمعية الثانية بأصوات هذه المجموعات الثلاث معا، ووافق الشعب الفرنسى فى نهاية الأمر على المشروع بأغلبية 53 فى المائة من المصوتين. مشروع الدستور الموافق عليه عارضه الجنرال ديجول معارضة مطلقة، وهو استمر فى معارضته حتى بعد أن صار دستورا. المهم أن أوجه اعتراضه كانت هى نفس نقاط الخلاف التى أدَت إلى رفض المشروع الأول، أى توزيع السلطات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وصلاحيات مجلس الشيوخ. لم يكن الخلاف بشأن قيم جوهرية بالنسبة للشعب الفرنسى، بل كان بشأن نظام الحكم وكفاءته وفاعليته. أين هذا من الخلاف الدائر فى مصر الآن؟ أما بشأن حقوق الإنسان، فتجدر الإشارة إلى الديباجة الواردة فى الدستور المرفوض فى مايو 1946، والتى وردت كما هى فى الدستور المعتمد فى أكتوبر 1946، ثم أدرجت دون أدنى تغيير فى دستور الجمهورية الخامسة قى 1958، وهو ما يعنى كله أن التوافق بشأن الديباجة كان تاما بين كل أطراف المجتمع الفرنسى فى النصف الثانى من الأربعينيات وفى الخمسينيات. هذه الديباجة فلسفية ووظيفية، جوهرها هو أن للإنسان حقوقا غير قابلة للتصرف، وأن العلاقة وثيقة بين حقوق الإنسان والمواطن، من جانب، وازدهار هذا الإنسان والمواطن، من جانب آخر. لذلك تفصِل الديباجة وتذكر صراحة، المساواة بين المرأة والرجل والحق فى عدم التمييز على أساس الجنس، أو العرق، أو الدين. أين هذا من السكوت عن أسباب التمييز فى مشروع الدستور المصرى، الذى شكل نكوصا عن نفس أحكام الدساتير المصرية السابقة عليه؟ تقدم فى مقابل تراجع!
ينعى المؤرخون ودارسو القانون الدستورى الفرنسيون اليوم على دستور الجمهورية الرابعة أنه اعتمد برغم الخلاف على أحكامه لأن الشعب الفرنسى كان قد ملَ عدم الاستقرار، وهى نفس الحجة المستخدمة فى مصر حاليا، كما أنهم ينعون عليه أن نسبة المشاركة فى الاستفتاء الذى اعتمده لم تكن إلا 70 فى المائة كما سبق بيانه، وهو ما يعنى، فى رأيهم، ضعف الاتفاق عليه وهشاشته. قارن هذه النسبة بمعدل المشاركة فى المرحلة الأولى من الاستفتاء المصرى! أما سبب نعيهم هذا وذاك، فهو أن الاتفاق الهش سهل الانكسار، وهو فى حالة الجمهورية الربعة سرعان ما انكسر فعلا بخروج الشيوعيين عليه اعتبارا من سنة 1947، وكانت النتيجة أن التوق المتسرع إلى الاستقرار لم يؤد إلى إلا عدم استقرار مطلق: فيما بين سنة 1947 وسنة 1958، أى فى خلال 11 سنة، تشكلت فى فرنسا 24 حكومة، تراوح عمر كل منها بين اليوم الواحد والستة عشر شهرا!
وإن كان اعتماد دستور الجمهورية الرابعة يتخذ مثالا، فكيف لا نلتفت إلى سلوك النظام السياسى الذى أفرزه هذا الدستور مع مجموعات الشعوب التى ننتمى إليها، ومعنا نحن تحديدا، وإلى ما أسفر عنه هذا السلوك بالنسبة للفرنسيين أنفسهم.. الجمهورية الرابعة هى التى خاضت حربا استعمارية وحشية فى فيتنام انتهت بهزيمة منكرة لها فى سنة 1954. وهذه الجمهورية هى التى اعتقلت الحبيب بورقيبة، ونفت السلطان محمد الخامس إلى مدغشقر، ثم حاربت بوحشية وبلا إنسانية حركة التحرر الوطنى الجزائرية، فى حرب استعمارية لا أخلاقية أجهزت عليها هى نفسها. والجمهورية الرابعة هى التى تآمرت على مصر واشتركت فى العدوان الثلاثى عليها فى سنة 1956.
العجز عن الحكم فى الداخل، والفشل فى إدراك التغيرات فى النظام الدولى والتسليم بنتائجها، السبب فيهما هو ضعف النظام السياسى، وهو ضعف مترتب بدوره على هشاشة التوافق المتمثل فى العقد الاجتماعى الذى كرَسه الدستور. هذا العجز، وهذا الفشل، وهذه اللاأخلاقية جعلت الفرنسيين يزدرون الجمهورية الرابعة. إن تغاضينا عن فساد المقارنة، فهل نريد لنظامنا السياسى الجديد عدم استقرار مثل ذلك الذى ميَز الجمهورية الفرنسية الرابعة، وهل نبغى له عجزا وفشلا ولا أخلاقية كتلك التى اتسمت بها هذه الجمهورية؟