خلال فترة وجيزة لا تتعدى أياما شهد الوطن العربى نوعين متباينين من «قتل الذات». وعلى الرغم من الاختلاف الشاسع بين الحدثين ــ من حيث الدوافع والنتائج والدلالات ــ فإننا جميعا لم نتردد فى وصف كليهما بأنه انتحار. والأمر قد تطور فى الحالتين فى اتجاهين مختلفين تماما يحتاج إلى إعادة نظر فى هذه التسمية. وليس هذا من قبيل الاهتمام بالألفاظ، إنما هو من قبيل الاهتمام بالمعانى والنتائج.
الحدث الأول كان التفجير الانتحارى الذى وقع فى مدخل كنيسة القديسين فى مدينة الإسكندرية المصرية وأودى بحياة مرتكبه و23 من المصريين غالبيتهم من المسيحيين والباقين من المسلمين. وقد أدى الحدث إلى كل ما نعرفه جميعا من ردود فعل اتسمت فى غالبيتها بالنضج والإدراك الصحيح للدوافع، والعمل الوطنى العفوى والسريع من جانب الجماهير لتأكيد المعانى السامية لوحدة مصر بين الديانتين، معبرين عنها فى المظاهرات والبيانات التى أرادت أن تمحو أثر «العمل الانتحارى» ونجحت فى ذلك إلى أبعد حد، بل تجاوزت قدرة السلطات على لمّ الشمل وإزاحة عبء المشاعر السلبية التى نتجت عن هذا الانتحار.
الحدث الثانى كان بطله بوعزيزى الشاب التونسى الجامعى العاطل عن العمل الذى أراد أن يعبر عن جرح كرامته الإنسانية عندما أرادت الشرطة التونسية مصادرة الخضراوات التى كان يبيعها فى الشارع ليجنى لقمة العيش لأسرته. لقد أشعل الشاب بوعزيزى النار فى نفسه دفاعا عن كرامته، فإذا بالنيران التى أحرقت معظم جسده تضىء طريق الاحتجاج أمام جماهير بلدته بويزيد ثم خلال ساعات وأيام أن تضىء طريق الثورة أمام جماهير تونس كلها. لقد نجح الشاب التونسى باستشهاده فى إطلاق سراح المكبوت من مشاعر التونسيين ضد نظام الحكم. وكلنا نعرف الآن النتائج كلها التى نجمت عن الشرارة التى أشعلت النار فى جسم هذا الشاب.
وسؤالنا هو: أى «المنتحرين» الاثنين أولى بلقب شهيد؟ وأيهما مجرد منتحر ارتكب جريمة ضد الدين وضد القانون؟
إن احدهما انتحار ــ بالأحرى قتل للذات ــ تم بصورة غير عفوية فقد كان يهدف إلى النتائج التى انتهى إليها او كاد. كان لديه تصور واضح بأنه سيقتل وسيقتل غيره وكان لديه تصور مسبق عن الآثار النفسية والذهنية التى ستنجم عن هذا العمل الذى أقدم عليه نتيجة إعداد وتدريب وتهيئة نفسية وعقلية. والثانى أقدم على قتل نفسه دون أن يهدف إلى ما نتج عن فعله من نتائج. لم يتدرب على هذا الفعل ولم يتشاور فيه مع من دربه ولا واصل الاستعداد والإعداد النفسى الى نقطة الاقتناع بأن هذا قتل حلال بل إنه يضمن له الجنة. الأول قصد إلى القتل عامدا متعمدا تجاه نفسه وتجاه ضحاياه والثانى لم يقصد إلا نفسه لان الطرق كلها سدت بوجهه ابتداء من الرئاسة الى شرطة الشارع.
بمقياس النتائج على الأقل يحق لنا بعد التحليل أن نقول إن الأول مفجر مدخل الكنيسة فى الإسكندرية كان منتحرا وإما الثانى فكان شهيدا. فنحن أمام تفكيرين مختلفين وقيم مختلفة ومرام مختلفة.. فى الحالة الأولى انتحار فى مسار التعصب وانعدام الفهم والرغبة الذاتية فى إقناع النفس بأن هذه طريق تفضى إلى الجنة. وفى الحالة الثانية رمز إلى انسداد الطرق الحرة نحو الخلاص، تأكيد بأن الدفاع عن الآخرين يبدأ بالاستغناء عن الذات.
على أى الأحوال فإن «الانتحار السياسى» ــ أى الانتحار لتحقيق هدف سياسى ــ ليس جديدا فى التاريخ.. إنما يمكن الرجوع به إلى ما يسمى انتحار الماسادا. وهو انتحار جماعى أقدمت عليه مجموعة من نحو ألف من اليهود حاصرهم الرومان فوق تل الماسادا فى عام 72 ميلادية وقرروا أن ينتحروا جميعا خوفا من الوقوع فى الأسر. ويقول المؤرخون ان الجنود من هؤلاء اليهود أقدموا على ذبح أطفالهم وزوجاتهم قبل أن يقفز الجميع من فوق التل ويلقوا حتفهم. ويضيف المؤرخون أن اثنين فقط لم يرموا بأنفسهم من الجبل كان احدهما من العسكريين هو المؤرخ اليهودى الأشهر جوزيفوس. لقد أثَّر الاستسلام للرومان، وكان هو الذى حكى ما جرى.
وعلى ذكر الانتحار فى التقاليد اليهودية لا يمكن أن ينسى الانتحار اليهودى البطولى الذى أداه شمشون بهدم المعبد فوق رأسه ورءوس أعدائه.
كذلك فإن الانتحار على سبيل الاستشهاد معروف منذ الزمن القديم إذ يذكر أوريجين السكندرى أن والده انتحر ليصبح شهيدا فى عام 2002. كما يذكر مؤرخ المسيحية القديم يوزيبيوس ان كثيرين من المسيحيين الاوائل كانوا ينتحرون هربا من التعذيب وليصبحوا شهداء. وكانوا ــ حسب هذا المؤرخ العتيد للمسيحية ــ «يعتبرون الموت جائزة تنزع من سفالة الرجال الأشرار».
وقد كان سائدا لدى الباحثين فى ظاهرة الانتحار حتى وقت قريب نسبيا أن الإنسان البدائى لم يكن يعرف الانتحار. ويظن الباحثون الآن أن هذا الاعتقاد ناجم من نظرية روسو عن سعادة الانسان المتوحش أو البدائى. ولكن دراسات أحدث تبرهن على أن الانتحار كان معروفا ومقبولا لدى البدائيين، مثلما هو الحال عند الهنود الحمر فى أمريكا الشمالية والجنوبية وعند السكان الأصليين فى أستراليا وكذلك عند قبائل الاسكيمو التى تسكن المناطق القطبية. ولهذا يؤكد المؤرخون المحدثون للظاهرة أن الانتحار كان جزءا من التاريخ الإنسانى منذ أن بدأ تسجيله. والمعتقد أن الموقف من الانتحار فى مصر القديمة كان موقفا محايدا، أى لا يحبذ الانتحار ولا يرفضه. وذلك بالقدر نفسه الذى كان المجتمع فى مصر القديمة ينظر إلى الانتحار نظرته نفسها إلى الموت أى باعتباره انتقالا نحو مرحلة أخرى أسعد من الحياة. وتمثل هروبا من مصاعب الحياة الراهنة. بل يذكر المؤرخون انه كان مسموحا فى مصر القديمة لمن تلقى حكما بالإعدام أن يقتل نفسه بنفسه بدلا من انتظار لحظة إعدامه.
وجاء وقت أصبحت فيه النظرية السائدة بشأن الانتحار أنه من نتاج الحضارة الحديثة أو بالتحديد من نتاج التقدم التكنولوجى، مع إن كثيرا من الباحثين يعتقد أن الانتحار كان سائدا بشكل خاص فى العصور الوسطى أى فى زمن هيمنة الكنيسة على الفكر والمعتقدات والسلوكيات بالتالى.
وكما ساد الاختلاف بشأن وجود ظاهرة الانتحار فى الأزمنة المختلفة فإن الاختلاف قد ساد بشأن مواقف الديانات والمذاهب الفكرية من الانتحار. بل اختلفت التفسيرات بهذا الشأن ربما باستثناء الإسلام حيث حرم الإسلام بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل قتل الإنسان لنفسه: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما» (سورة النساء ــ الآية 29).
وبوجه عام فقد تباينت المواقف من الانتحار تباينا شديدا بصورة عكست التاريخ الثقافى النفسى للمجتمع. وفسر علماء الاجتماع ذلك بأن رفض الانتحار كان سائدا فى المجتمعات التى تسود فيها الخرافات والسحر وترتبط فيها هذه المعتقدات بالفزع والصراعات النفسية الحادة والرغبة فى إبعاد الشرور التى تنجم عن الانشغال بموضوع الموت. فكان ثمة حرص فى هذه المجتمعات على إبقاء روح الرغبة فى الانتحار سجينة حتى لا تعود تطارد الإنسان الحى.
ويسود الاعتقاد بين دارسى الظاهرة فى الوقت الحاضر بان الانتحار يجرى إما من أجل هدف فردى، وإما من أجل هدف اجتماعى.
وعلى هذا الأساس نفسه يمكن أن نقول إن انتحارى كنيسة القديسين كان هدفه فرديا، بينما كان الشاب التونسى بوعزيزى هدفه اجتماعيا. وتبقى محاولات الانتحار التالية فى مصر وفى الجزائر وموريتانيا محاولات فردية رغم أنها تنوى غير ذلك ولا تستطيع أن تكرر ما فعله بوعزيزى فى تونس.
الأهم أن الأول كان منتحرا فرديا بينما كان الثانى شهيدا اجتماعيا. والفرق بينهما يمتد إلى مدى الفارق بين قيمة ما فعله كل منهما لمجتمعه.