كاد رؤساء ورؤساء حكومات العالم ان يقفوا وسط شباب ثورة مصر فى ميدان التحرير ليهتفوا باسم مصر بعد الثورة... أو هم كادوا أن ينضموا إلى صفوف الشعراء العرب الذين تغنوا بهذه الثورة.
براك أوباما قال: «يتعين علينا ان نعلم ابناءنا ليصبحوا مثل شبان الشعب المصرى».
رئيس الوزراء البريطانى دافيد كاميرون قال: ينبغى ان ننظر فى تعليم الثورة المصرية فى مدارسنا».
بيرلسكونى رئيس وزراء ايطاليا قال: «ليس هناك من جديد، فالمصريون يصنعون التاريخ كما هى عادتهم».
ستولتنبرج رئيس وزراء النرويج قال: «اليوم كلنا مصريون».
هاينز فيشر رئيس جمهورية النمسا قال: «شعب مصر هو اعظم من فى الارض ويستحقون نيل جائزة نوبل للسلام».... الا اسرائيل. من البداية وحتى الآن لا يزال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يبدى امتعاضه مرة ومخاوفه مرة اخرى وقلقه مرة ثالثة، والخوف الاسرائيلى فى كل تلك المرات منصب على مصير معاهدة السلام بين مصر واسرائيل فيما لو نجحت الثورة المصرية. وبلغ الامر بوقاحة اسرائيل إلى حد طلب تدخل الولايات المتحدة واوروبا لإحباط ثورة مصر قبل ان تدهس سلام الشرق الاوسط والمقصود هنا هو بالطبع سلام اسرائيل. وعندما حققت الثورة انتصارها الاول بإجبار حسنى مبارك على التنحى صعدت وقاحة اسرائيل إلى مستوى اخطر.
سمحت اسرائيل لنفسها بأن تضع كل تأييدها خلف مرشح معين لرئاسة مصر، وهو لا يزال يعانى وجوده فى منطقة رمادية بين النظام القديم الذى هوى والثورة التى انتصرت، وسمحت اسرائيل لنفسها بأن تقف ضد مرشح معين آخر لرئاسة مصر باعتبار ان مواقفه تشكل خطرا على اسرائيل وعلى السلام معها.
وبلغت وقاحة اسرائيل اقصاها عندما قالت بلسان رئيس وزرائها ان اسرائيل لا يحميها من اية مخاطر تنشأ فى المنطقة نتيجة لثورة مصر الا جيشها.
قال نتنياهو ما قاله بينما المنطقة تغلى بمراجل الثورة فى ميادينها. الامر الذى يدعو للتساؤل: اليست هناك اسباب لثورة فى اسرائيل؟ اليس الفشل الاسرائيلى فى الانتماء للمنطقة مدعاة لثورة؟ اليس الفشل فى تقديم السلام للعرب واولهم الفلسطينيون سببا اخر لثورة فى اسرائيل؟. الايعيش اليهود الشرقيون فى اسرائيل وكذلك عرب 1948 فى ظل فقر لا يتميز عن فقر غيرهم فى البلدان المحيطة التى تدق الثورة ابوابها؟ الم يضجر الاسرائيليون بعد من حياة تفرض عليهم الخدمة العسكرية واحتياطيها طول الوقت فى انتظار حرب اخرى؟ الم يعرف الاسرائيليون بعد حربهم على لبنان فى صيف عام 2006 ان النصر لم يعد من نصيب اسرائيل حتى وهى تواجه اصغر دولة عربية؟ الم يدرك الاسرائيليون خطأ ما ظنوا انه حتمية انتصار على المقاومة الفلسطينية فى حربهم البشعة على غزة فى شتاء 2008-2009 فانتهت والمقاومة باقية وتزداد قوة؟
الواقع انه ليس من دولة شرق اوسطية تحتاج إلى ثورة كما تحتاجها إسرائيل.
ولكن الثورة فى إسرائيل مستحيلة.
الحرب هى بديل الثورة فى اسرائيل. واسرائيل نفسها وصفت فعلا بأنها جيش تتسلق على جوانبه دولة ومجتمع. وفى مثل هذا الوضع الثورة مستحيلة حتى وهى ضرورية إلى اقصى حد. اسرائيل ليست وطنا..ولا حتى لليهود. انها مجتمع عسكرى بالدرجة الاولى ولهذا فهى اقرب لدولة فاشية منها لأى تنظيم آخر. كان باستطاعة اسرائيل ان تواجه هذا الجيش العربى او ذاك، ولم يكن باستطاعتها ابدا ان تواجه دولة..اى دولة عربية، مصر كانت او سوريا او العراق او الجزائر او المغرب... لقد وصل بها الامر يوما إلى حد احتلال القسم الاكبر من لبنان واحتلت عاصمته بيروت لكنها خرجت منه مرغمة.
ليس سرا ان اسرائيل ـ وحدها دون اى دولة اخرى فى العالم ـ كانت تتمنى بقاء نظام مبارك، فى وقت كان العالم كله يرى الامر فى اتجاه معاكس لذلك. فقد كان هذا النظام ملائما لها إلى اقصى حدود الملاءمة. ليس فقط بسبب حرصه الذى تجاوز كل الحدود على علاقات سلمية معها تجاوزت النصوص العلنية والسرية، أى ليس بسبب طبيعة العلاقات التى اقامها مع اسرائيل وافتضح امرها بعد حرب غزة واستمرار الحصار عليها.
انما كان نظام مبارك ملائما لإسرائيل داخليا. فالداخل المصرى كان ضحية لكل امراض الفساد التى اضعفت بنيته السياسية واضرت بسمعة مصر الدولية ومكانتها وكان هذا اكثر ملاءمة لإسرائيل لكى تقول بصوت عال ــ فور بدء ثورة الشباب ــ ان الغرب يعلم الآن ان اسرائيل هى وحدها الضامن للديمقراطية وللإصلاح السياسى والاقتصادى.
ارادت اسرائيل ــ اكثر مما ارادت اى قوة اخرى فى العالم ــ ان يبقى نظام مبارك كما هو لتبقى هى متميزة على مصر وبالتالى على العرب اجمعين. لهذا كان من الطبيعى ومن المنتظر منها ان تحاول من بداية الثورة ان تحرض على مصر وعلى الثورة من اجل تأمين هدوء البال لنفسها.
هل يمكن ان نتصور ان تتخلى اسرائيل عن هذا الموقف؟ هل تستسلم اسرائيل لحقيقة ان مصر تدخل الآن إلى الديمقراطية من اوسع ابوابها واكثرها ثباتا ورسوخا؟ هل تسكت اسرائيل عن التحولات الثورية الجذرية التى تدخل فيها هذه الثورة العظيمة؟
تصرفات اسرائيل تجاه مصر حتى فى ايام مبارك، وفى ظل فساد السياسة الخارجية التى اعطت لإسرائيل اكثر مما تستحق من الهدوء والمودة فى احلك ظروف العدوان الاسرائيلى على الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، لم تكن تكشف أبدا عن نوايا حسنة تجاه مصر او مصالح مصر القريبة فى غزة والحيوية فى منابع النيل. ولا يمكن لأحد ان يتوقع نوايا اسرائيلية حسنة تجاه مصر الثورية الديمقراطية الارقى والاكثر غنى والاعدل والاشد اعتزازا بنفسها وشبابها وجيشها. قد تبدو هذه كلها اهدافا بعيدة المدى ولكن اسرائيل عودتنا على التخطيط الاجرامى بعيد المدى لشرورها ضد مصر، ولا يمكننا ان نتوقع ان تستكين فى مواجهة الثورة المصرية.
ان الثورة المصرية معنية بالضرورة بالشئون الداخلية لمصر فى الوقت الحاضر ولفترة زمنية لا يمكن تقدير مداها من الآن. غير ان التجربة ـ بالاحرى تجارب الماضى ــ تدل دلالة قاطعة على انه على الثورة ان تتنبه من الآن، وليس بعد الآن، إلى نوايا اسرائيل ومؤشراتها السلوكية تجاه اهداف مصر الثورة ومراميها. ولقد ادت مصر ما عليها من واجب دولة تحترم تعهداتها وتوقيعها ومواثيقها الاقليمية والعالمية عندما اعلن المجلس الاعلى للقوات المسلحة فى بيانه الرابع الصادر فى 13 فبراير ــ اى بعد يومين اثنين من سقوط مبارك، وفى اليوم العشرين من بداية الثورة ــ التزامه بكل المعاهدات والاتفاقيات الاقليمية والدولية المتفق عليها. وهذا كل ما هو مطلوب من المجلس العسكرى فى مثل هذه الظروف. لكن اسرائيل بالمقابل استمرت فى اظهار موقف اقل ما يوصف به انه تدخل عدائى فى الشأن المصرى فى وقت يستوجب الانتظار والترقب.
إلا أن الأمر المؤسف حقا هو ان حاجة اسرائيل إلى ثورة تعيدها إلى السواء والاتزان والتوازن فى علاقاتها الخارجية، خاصة مع المنطقة المحيطة بها، وهى حاجة بعيدة تماما عن ادراك قادتها. وربما تكون كذلك بسبب استحالتها فى ظروف تكوين اسرائيل السكانى غير المتجانس والاسس التى اقيمت عليها من البداية، والتى لم تستطع كل التغييرات التى طرأت منذ ذلك الوقت ان تغيرها.
ويصبح من واجبنا نحن المصريين ــ بما يعرفه العالم عنا وما يصرح به بكل وضوح ــ ان نلتزم اقصى درجات الحذر ازاء حقيقة استحالة الثورة فى إسرائيل.