شهدنا فى الأسابيع الأخيرة توترا حادا فى العلاقات المصرية الأمريكية، صاحبه غوغائية فى ساحة الرأى العام بالبلدين، استثمرها سياسيون وإعلاميون وكذلك بعض الرسميين، واسترسلوا فى نقل معلومات فى كثير من الأحيان غير دقيقة، أو فى تبنى شعارات ومطالب ليست فى مصلحة بلادهم.
لن أتعرض بالتفصيل إلى التهم الموجهة لعدد من منظمات المجتمع المدنى الأجنبية أو المصرية أو الحكومات باعتبارها مطروحة فى ساحة القضاء، وإنما سأكتفى بداية ببعض الملاحظات المقتضبة قبل الانتقال إلى القضية الأهم، وهى العلاقات المصرية الأمريكية فى المستقبل.
وأهم تلك الملاحظات هى:
الخلاف الدائر حول عمل المجتمع المدنى، يعنى فى المقام الأول العلاقة بين السلطة المصرية والمجتمع المدنى المصرى والأجنبى ما بعد الثورة، وعلينا سرعة إصدار قانون جديد لتنظيم عمل المجتمع المدنى مما يسهل ويوسع نشاطاته اتساقا مع مناخ الديمقراطية، يكون الأساس فيه الاستجابة وبما يسهّل من عملها فى ظل شفافية ومحاسبة، فإذا كنا قد حررنا وعدلنا قانون الأحزاب، علينا أيضا تحرير وتعديل قانون المجتمع المدنى، وكفانا قيود مبالغ فيها، وكفانا قوانين وتشريعات تمنع عمل المجتمع المدنى تارة، وتفتح الباب لنفس تلك النشاطات تحت قانون الشركات تارة أخرى، ناهيكم عن السماح لمنظمات المجتمع المدنى المصرية أو الأجنبية العمل بدون ترخيص أو محاسبة وفقا لهواها ومزاج السلطة.
طالما ظل الاقتصاد المصرى محدودا ومنكمشا، سيكون أغلب تمويل المجتمع المدنى المصرى من الخارج، وليس من المنطقى محاولة حجب هذا التمويل إلى أن يتوافر البديل المحلى له، فإذا كانت الحكومة والقطاع الخاص يسعيان الحصول على قروض ومنح أجنبية، كيف يُمنع ذلك عن المجتمع المدنى، إذن المسألة ليست فى منع التمويل من عدمه، وإنما فى وضع ترتيبات لضمان الشفافية الكاملة وتحديد أوجه محددة للغاية يحظر تمويلها من الخارج، مثل الحملات الانتخابية والبرامج الحزبية.. إلخ.
أخطأت جميع الأطراف الأجنبية الحكومية وغير الحكومية فى تمويل أو إقامة فروع لمنظمات المجتمع المدنى فى مصر دون الحصول على ترخيص، وهذا يشمل جهات أمريكية وأوروبية وغيرها، بل أضيف أن الولايات المتحدة بالتحديد أخطأت أيضا لوجود اتفاق مصرى أمريكى منذ موقع عام 2005 ينظم تمويل منظمات المجتمع المدنى إلا أن الجانب الأمريكى تجاهل ذلك كلية رغم توقيعه عليه.
إذا كانت الأطراف الأجنبية مخطئة فنحن فى مصر أيضا مخطئون. مخطئون لأننا تركنا منظمات أجنبية تعمل فى مصر، ألمانية وأمريكية وغيرها، فيما بين الثلاثين سنة وخمس سنوات، وتعاقدت معها الحكومة المصرية رغم عدم حصولها على ترخيص، فإذا كنا لا نحترم قوانيننا أو نعمل على تطبيقها بين الحين والآخر حسب المزاج السياسى فمن الطبيعى أن تتجاهل أطراف أخرى هذه القوانين بحسن أو سوء نية. وإنما نحن مخطئون أيضا لأننا لم نطبق القوانين على الكل عندما قررنا تنفيذ القانون، ففتحنا المجال مرة أخرى لشد وجذب بيننا وبين المجتمع المدنى الأجنبى والممولين الدوليين. ولقد آن الأوان أن تعدّل مصر قوانينها الخاصة بالمجتمع المدنى، ولقد آن الأوان أن نطبقها بشكل كامل ودقيق على الكل، وآمل أن يتم ذلك الآن ودون تأخير.
كان يمكن حماية السيادة المصرية، والأمن القومى المصرى، والاستقرار المجتمعى للساحة المصرية بالتنفيذ الصارم للقانون دون مهاودة طرف أو آخر، وكنت من أشد المطالبين بذلك، أمّا وسمعنا قبل الثورة باستغلال المجتمع المدنى الأجنبى والمصرى فى مناورات سياسية خلقت ترتيبات عملية على الأرض، فكان من الأفضل بعد الثورة تجميد عمل جميع منظمات المجتمع المدنى غير المرخصة أو المخالفة للقانون إلى حين صدور قانون مصرى جديد ينظم عمل المجتمع المدنى وإعطائها مهلة لتصحيح أوضاعه خلال فترة التجميد، حتى لا نتغاضى عن أى ممارسة غير شرعية فى الساحة المصرية، ونتجنب الظهور بعد ثورة رايتها الحرية والديمقراطية بمن قرر استعداء المجتمع المدنى المصرى أو الأجنبى خاصة.
●●●
يلاحظ أن هذه الأزمة أثارت فى الساحة المصرية ردود فعل عديدة وتعليقات حادة حول العلاقات المصرية الأمريكية، ودعوة إلى رفض المساعدات المخصصة لمصر، وشهدنا هذا التركيز والتلويح بالنسبة للولايات المتحدة وفى المقام الأول رغم وجود تمويل أجنبى من دول أخرى لبرامج المجتمع المدنى المصرى، بل ووجود بعض منظمات المجتمع المدنى غير الأمريكية فى دائرة الاتهام، والسبب الرئيسى لذلك هو وجود برنامج مساعدات أمريكية لمصر، وتلويح مسئولين أمريكيين به كورقة ضغط للتأثير على القرارات المصرية، قابله دعوة مصرية للتخلى عن المساعدات.
أتمنى أن أشهد اليوم الذى لا تحتاج فيه مصر أى مساعدات من أى دولة أجنبية، وأضيف أنه مهما كانت فوائد المساعدات أو الحاجة إليها على المدى القصير، فاستمرارها بصفة الدوام يخلق علاقة غير طبيعية ومضّرة، فالطرف المقدم للمساعدات، أى الولايات المتحدة، يتوقع حتما أن يجلب له هذا الاستثمار مناخا سياسيا واقتصاديا إيجابيا، حتى إذا لم يسعَ لاستخدامه كوسيلة ضغط مباشرة، والطرف المتلقى لهذه المساعدات المتواصلة ــ أى مصر ــ يعتمد عليها باعتبارها عائدا سهلا، مما يجعله لا يسعى إلى تطوير إمكانيته بالكفاءة المطلوبة، وتنويع البدائل المتاحة له بما يحقق أكبر قدر من الاستقرار والعائد. لذا أؤيد التخلى تدريجيا عن المساعدات الأمريكية لمصر، على أن يكون ذلك وفقا لجدول زمنى يتمشى مع احتياجاته الفعلية وليس كرد فعل لخلاف حول قضية أو غيرها، إلا إذا استخدمت هذه المساعدات بشكل سافر لتطويع القرار السياسى المصرى، هنا يجب أن تكون لنا وقفة، بصرف النظر عن التكلفة المادية للقرار.
لم نحصل على المساعدات الأمريكية كمقابل لتنازلنا عن حقوقنا فى إطار اتفاقية السلام المصرى ــ الإسرائيلى، بصرف النظر عن أن تلك المساعدات أُعطيت أمريكيا من أجل التحصين السياسى والاقتصادى لمنهجية السلام المصرية الإسرائيلية، ومن ثم فإذا كانت هناك رغبة مصرية فى مراجعة اتفاق السلام المصرى الإسرائيلى، وبالتحديد الشق الأمنى منه وهو أمر مطلوب، فيجب ألا يُرهن ذلك باستمرار المعونات الأمريكية لمصر أو وقفها، فهدف السلام الشامل العربى الإسرائيلى يجب صيانته بصرف النظر عن وجود مساعدات من عدمه، والملف الأمنى لاتفاق السلام المصرى الإسرائيلى يجب أن يُعدَل حتى لو تضاعفت قيمة المساعدات الأمريكية لمصر.
●●●
لا أعتقد شخصيا أن المساعدات الأمريكية لمصر ستُلغى نتيجة للخلاف الدائر حول المجتمع المدنى لأنها جزء من استثمار أمريكى محسوب يحقق مصلحة أمريكية فى نفس الوقت الذى تستفيد منه مصر، وإنما ستكون هناك بطبيعة الحال تداعيات مختلفة لتوتر الوضع المصرى الأمريكى الحالى، وسيصعب على الإدارة الأمريكية إعطاء تصريح صحيح للكونجرس بأن مصر تتخذ خطوات عملية تجاه الديمقراطية فى ظل المواجهة القائمة مع المجتمع المدنى الدولى والمصرى، وبالتحديد مع الأطراف الأمريكية فيه، خاصة كون 2012 عام انتخابى رئاسى أمريكى، إذن ستكون للأزمة المصرية الأمريكية الحالية تداعياتها على المساعدات وعلى العلاقات بدرجات مختلفة، تحكمها اعتبارات كثيرة، على رأسها قرارات وأحكام القضاء المصرى فى القضايا المطروحة، فعلى سبيل المثال إذا اصدر القضاء المصرى أحكاما ضد المنظمات المتهمة كمؤسسات قائمة بذاتها منذ فترة طويلة، أعتقد أنه يمكن تجاوز الأزمة، أمّا إذا صدرت أحكام ضد رؤساء المكاتب بصفتهم فلا شك أن ردود الفعل الأمريكية خلال عام انتخابى ستكون أشد وأكثر قوة. لا أدعو بهذا الشرح للتدخل فى القضاء المصرى، وهذا يخالف معتقداتى ومواقفى خلال سنين طويلة، إنما عرضته استقراء للمستقبل، ولنكون على بينة بالأمور ولنعد عدتنا.
تقتضى منّى الأمانة القول بأن كل الأطراف مخطئة فى التعامل مع قضية المجتمع المدنى الحالية، الدول الغربية والولايات المتحدة تحديدا لغرورها ولا مبالاتها للقوانين المصرية، ومصر بازدواجية تطبيقها للقوانين أو عدم تطبيقها لها، ثم الانتقال من توجه إلى آخر دون تنويه أو تمهيد، وسيكون لذلك تداعيات على صورة مصر بالخارج وعلاقاتها مع الأطراف المعنية، بصرف النظر عن نهاية هذه الأحداث. مع هذا، رغم ما نشهده من اضطرابات على الساحة المصرية الآن، لدىّ يقين راسخ بأن الثورة المصرية من شأنها أن تقوّى وضع مصر الخارجى وتدعمه، ومع أن صحوة الصوت المصرى بتنوعه واختلاف الرؤى فيه، بما فى ذلك ما يسمى بالتيار الإسلامى، على أنها تثير أسئلة وحسابات دقيقة على المستوى المصرى المحلى، المصرى العربى، والإسلامى، وعلاقاتنا مع المجتمع الدولى، وبطبيعة الحال ستؤثر على علاقاتنا مع الولايات المتحدة وإسرائيل.. إلخ.
●●●
ستطرح هذه القضايا والكثير من القضايا الأخرى فى إطار علاقتنا مع الولايات المتحدة، وسيكون على الجانبين المصرى والأجنبى بما فى ذلك الأمريكى التعامل مع الطرف الآخر بحنكة وحساسية، حفاظا على مصالح الدولة ومراعاة لشعور الرأى العام السياسى، دون السقوط فى فخ الاستقرار المصطنع الذى ينتهى إلى الركود أو المهاترات الشعبية غير المسئولة فى سياق مزايدات حزبية فى دولة أو أخرى.
مصر دولة إقليمية عظيمة، وستستعيد عنفوانها ونفوذها وتأثيرها، وريادتها الفكرية فى زخم الثورة والدعوة إلى الحرية والديمقراطية، ومن مصلحتها حماية مصالحها بالتفاعل بثقة مع العالم بما فى ذلك الولايات المتحدة. كما من مصلحة الولايات المتحدة أخيرا التعامل مع الشعوب العربية باحترام وانفتاح وتفهّم، وبشكل خاص شعب مصر الذى يشكّل ربع سكان الشرق الأوسط، فلن تستطيع حماية مصالحها الأمنية والاقتصادية أو الاستراتيجية خاصة فى خلق مناخ غير معادٍ للغرب بالعالم العربى والإسلامى وحماية عملية السلام العربى الإسرائيلى وحماية الأقليات فى العالم العربى دون أن تتفاعل مع الشعوب كما تفاعلت مع الحكومات فى الماضى. لكل هذه الاعتبارات، أتوقع أن تواجه العلاقات المصرية الأمريكية أزمة على المستوى القصير يكون لها تداعياتها على الطرفين نتيجة الأخطاء من الجانبين، وإنما أثق أن العلاقات فيما بيننا ستكون أفضل على المدى البعيد إذا ما احترم كل منا الطرف الآخر حكومة وشعبا، وطبقنا معايير ثابتة على تصرفاتنا وعلاقاتنا.