أسانسير - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسانسير

نشر فى : الأربعاء 26 مارس 2014 - 6:40 ص | آخر تحديث : الأربعاء 26 مارس 2014 - 6:46 ص

انتقلنا مع «الشروق» إلى مقر جديد بالطابق العاشر ببناية فخمة فى حى جاردن سيتى، وكان يومى الأول فيه حافلا بالانبهارات. انبهرت بالموقع وبالجوار القريب، سفارات لها وزنها وأمنها، وفروع لمصارف عظمى لها قيمتها، ونواد اجتماعية يؤمها عِلْية القوم الجدد والقدامى سواء بسواء. انبهرت بعدد المصاعد، وانبهرت أكثر بالتكنولوجيا المستخدمة فيها لتوفير الراحة والأمن لسكان المكان والعاملين فيه. كنت قد اخترت أحد المصاعد ودخلت فيه وضغطت على الزر العاشر ولم أتلق رد فعل من المصعد. جربت مرة أخرى وثالثة وفشلت. خاب أملى فى أن أكون الراكب الوحيد فى هذا الصباح المبكر إذ بدأ توافد ركاب آخرين. كلهم جربوا وفشلوا، إلى أن جاءنا الفرج فى شكل عامل يحمل علب دهان. وجه إلينا نظرة استعلاء، ثم التفت إلى راكب بعينه، كان بدون شك الأكثر وجاهة وربما الأعلى مكانة، ليكلفه بإدخال الباسوورد password فى مكان مخصص لها على لوحة قيادة الأسانسير. وبالفعل استجاب المصعد لطلباتنا وانطلق صاعدا نحو أهدافه المرسومة إلكترونيا.

•••

قضيت رحلة الطوابق التسعة، ومشوار العشرين خطوة التى تفصل بين منطقة حرم المصاعد وحرم مكتبى، أتذكر الأسانسير الذى استخدمته يوم تقلدت مهام أول وآخر وظيفة لى فى الحكومة المصرية. كنا قد قضينا حوالى سنة فى سلسلة من الامتحانات التحريرية والشفهية والفحوصات الطبية قبل أن يصدر لنا قرار تعييننا ملحقين دبلوماسيين فى وزارة الخارجية. رحت إلى الوزارة فى مقرها العتيد لأجد فى انتظارى «عم عبده» متأهبا لاختبار هيئتى وبعض إمكاناتى. وجدت رجلا فى الخمسينيات من عمره، أنيق الملبس، بصلعة فائقة اللمعان وعينين نافذتين، ولنكتشف على مر الأيام أنه يتمتع بذكاء فريد وفراسة فى الرجال. أذكر جيدا سؤاله الأول والوحيد، حضرتك من الملحقين الجداد، شكل حضرتك مألوف، ابن مين يا ترى؟.

لم يعرف أى من الملحقين الجدد ترتيبه فى الاختبارات التى أجراها «عم عبده» للدفعة الجديدة إلا بعد أيام وربما أسابيع. عرفنا حين اكتشفنا أن عددا منا كان يصعد إلى مكتبه مستخدما الدرج الجانبى بما يعنى الفشل فى الاختبار، بينما حظى عدد آخر بشرف استخدام المصعد. هؤلاء كانوا نوعين أو بمعنى أدق، طبقتين. طبقة يستقبلها عم عبده برشة واحدة من كولونيا محلية الصنع، وطبقة يرشها بثلاث أو أربع رشات ودعاء مناسب. هكذا اكتشفت أن للأسانسير فى ذلك الزمن وظيفة اجتماعية تضاف إلى وظيفته كوسيلة مواصلات.

•••

الأسانسير يتشابه مع وسائل النقل الأخرى إلا فى القليل، وأهم ما فى هذا القليل هو أن المصاعد تنقل ركابها وحمولتها عموديا بينما تنقلهم وسائل النقل الأخرى أفقيا. اختلاف بالغ الأهمية. كثيرون ربما لا يعرفون أنه الاختلاف الذى أثر تأثيرا هائلا فى تطور حركة العمران فى العصر الحديث.

كنا، فى عصور ما قبل القرن التاسع عشر، إذا تضخمت العائلة توسع كبيرها فاشترى أرضا شيد عليها مساكن جديدة. نادرا ما توسع الأهل ببناء طوابق أعلى فى زمن لم يزد أقصى ارتفاع فيه عن خمسة أو ستة طوابق، وجرت العادة أن يسكن الطوابق الأعلى الخدم والطهاة والمساعدون. كان الأرستقراطيون يستأجرون أو يشترون الطوابق السفلى، بينما يقطن أبناء الطبقة الوسطى الطابقين الثانى والثالث، ويسكن الكتبة والمدرسون والموظفون والفئات العاملة الطبقة أو الطبقتين الأعلى. استمرت هذه العادة إلى أن ظهر الأسانسير . فبانتشار استخدامه أصبح السكان الأغنياء يفضلون الطوابق الأعلى تاركين الطوابق الدنيا للأقل دخلا.

•••

استخدمت المصاعد «البخارية» أول مرة فى بعض الفنادق الفاخرة فى مدينة نيويورك فى عقد الستينيات من القرن التاسع عشر. ومن الفنادق انتقلت إلى المبانى الإدارية متسببة فى تغير سلوكيات أعداد متزايدة من البشر. يعيب دانيال ويلك، أستاذ التاريخ بمعهد فاشيون للتكنولوجيا فى نيويورك، على الأكاديميين نقص اهتمامهم بما يطلق عليه «ثقافة المصاعد». اهتموا بثقافة القطارات والطائرات والدراجات أى بتأثيراتها الاجتماعية والسلوكية ولم يهتموا بثقافة المصاعد. ويضيف إن كثيرا من المثقفين لا يعرفون أنه «بدون اختراع المصاعد ما نشأت ظاهرة ناطحات السحاب». يحق له هذا، فالزائر لمدينة مثل دبى أو شنغهاى وبكين لا بد أن يسأل «هل كان يمكن أن تكون هناك «دبى» مثلا على النحو الذى نعرفها به الآن، لو لم تكن هناك مصاعد»؟.

لولا القطار فى بريطانيا ولولا السيارة فى أمريكا ما كانت الضاحية، ولولا الأسانسير ما نشأت المدن كما نعرفها الآن. حاول أن تتصور مسافة الأرض اللازمة لإقامة مساكن عائلية أو مقار إدارية لمستأجرين وملاك يعيشون الآن فى الطوابق من السادس إلى الثمانين فى بناية أكثر من نصفها يطل على السحاب. أو تخيل معى سكان مدن عملاقة مثل مدينة المكسيك وبكين والقاهرة ولاجوس وقد قرروا أن يغادروها ليسكنوا فى بنايات لا تستخدم المصاعد، أى منخفضة الارتفاع. أين مساحة الأراضى التى يمكن أن تستوعب كل هؤلاء. بمعنى آخر ساهمت المصاعد فى إنقاذ مساحات هائلة من الأراضى الزراعية ووفرت على الدولة مبالغ طائلة كانت ستذهب فى مد طرق ومرافق صحية وخطوط اتصال واستراتيجيات أمنية وإدارة محلية.

•••

أعرف من تجارب شخصية، أجريت بعضها خلال الأيام الماضية وأنا أعد لهذا المقال، أن ركاب المصاعد يمارسون سلوكيات تنم عن كثير من القلق وعدم الارتياح. قيل فى تفسير هذا الأمر إن أكثر الناس لا يرتاحون إلى «تلامسهم» مع غيرهم من ركاب المصعد. هم أنفسهم قد لا يرتاحون إلى التلامس فى السيارات وغيرها من وسائل النقل، ولكنهم لا يبدون الدرجة ذاتها من القلق، فضلا عن أن راكب المصعد عادة إنسان مرتبك. لا يعرف تحديدا أين ينظر. غالبا ما ينظر إلى أعلى، ربما ليتفادى ضبطه متلبسا بالنظر إلى شخص معين أو شىء معين فى هذا الشخص المعين. أضف إلى ما سبق أن راكب الأسانسير فى غالب الاحتمال إنسان محشور، مضطر لأن يعتذر وهو يلج إلى الداخل أو ينسحب إلى الخارج.

كم اختلف هذا الراكب المعاصر عن مستخدم الأسانسير فى القرن التاسع عشر؟ وقتها كانت المصاعد تزينها ثريات الكريستال وتفرش بالسجادة الحمراء، ويفرد للراكب مقعد خشبى لامع وتقدم له المرطبات ترحيبا به وتشجيعا، ويرش بالروائح الذكية مثلما ظل يفعل «عم عبده» حارس أسانسير وزارة الخارجية إلى ما بعد منتصف القرن العشرين.

نعرف أيضا أن كثيرا من الناس لا يحبون الأماكن المغلقة، وأن نسبة كبيرة تصاب بحالات مرضية كالاختناق والصراخ إذا طالت مدة وجودها داخل مصعد، هو فى النهاية لا يزيد عن كونه صندوقا محكم الإغلاق، معلقا بسلك، مجرد سلك لا أكثر.

•••

عشت فترة فى مدينة مونتريال بالطابق السادس من بناية تطل على حرم الجامعة. كنت أستخدم المصعد ست أو ثمانى مرات يوميا. لم يحدث إلا نادرا، على ما أذكر، أن رافقنى فى الرحلة مستأجر أو مستأجرة بادلنى أو بادلتنى التحية. عشت تجارب مماثلة فى مدن مثل نيويورك وجنيف ولندن. خلصت وقتها إلى أن الإنسان ما إن يستقل المصعد إلا ويصبح إنسانا غير ودود. بقيت سنوات أدقق فى هذه الخلاصة التى توصلت لها، إلى أن جاء يوم أطلعت فيه على مقال ينقل فيه كاتبه عن البروفيسور اندرياس برنارد أستاذ الدراسات الثقافية والصحفى الألمانى ومؤلف كتاب بعنوان «Lifted» تعجبه من أن الإنسان، بعد أن استخدم المصعد لمدة مائة وخمسين عاما، لم يتعود بعد على التأقلم مع هذا المزيج الفريد من الحميمية وعدم الألفة، وكلاهما متوافران بغزارة فى أى رحلة يقوم بها المصعد. أنا شخصيا لم أسمع عن قصة حب بدأت فى مصعد ولكننى سمعت عن قصص حب وجدت نهايتها فى مصاعد. ثم أذكر أننى شاهدت عددا غير قليل من الأفلام السينمائية تعالج موضوعات وقعت أحداثها داخل مصاعد أغلبها، إن خدمتنى الذاكرة، أخذ طابع العنف والمأساة.

•••

بدأت حديث الأسانسير بعم عبده وأنهيه بحديث عن زميل قدير وعالى المكانة، يربط بين الاثنين عملهما فى مكان واحد وهو وزارة الخارجية والأسانسير ولا شىء آخر. كلاهما بحكم وظيفته ومهاراته اقترب من المشاهير. عم عبده كان يفخر بأنه يعرف أسماء جميع السفراء الأجانب المعتمدين فى مصر وسفراء مصر العظام ووزراء خارجيتها كانوا جميعا ينادونه باسمه ويسألونه عن أحواله وعائلته. كذلك كان الزميل القدير كل الناس يعرفونه، القادة وغير القادة. اقترب من كثيرين واطلع على دخائل أغلبهم لم يجد مشقة فى الكتابة عنهم معتمدا على كنز المعلومات والتجارب الذى يحرص عليه أشد الحرص ويخشاه آخرون أيما خشية!. المشقة الكبرى التى واجهته كانت فى علاقته بالأسانسير. هو نفسه كان وراء الطرفة القائلة بأن أسانسير السلطة فى مصر دأب على أن يلتقط من يشاء من الطابق الأرضى ويصعد به إلى طابق أو آخر من طوابق السلطة العليا. أسانسير يصعد ويهبط لا يهدأ ولا يكل. يتوقف عند كل الطوابق مرارا وتكرارا فى صعوده وفى هبوطه باستثناء طابق واحد تصادف أنه كان دائما الطابق الذى أقام فيه صديقنا وزميلنا القدير.

لم يغفر للمصعد جهله به أو تجاهله له.. ولن يغفر.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي