منذ أن تم نشر مقالى الأخير فى «الشروق» والذى حمل عنوان «عن فرضيات سياسية منتهية الصلاحية» وقد جاءتنى ردود فعل متباينة من الأصدقاء والزملاء والقراء الأعزاء أيدت فى معظمها ما كتبت ولكنها انقسمت حول اعتقادى بأن فرضيتى «الإسلام هو الحل» و«العلمانية هى الحل» انتهت صلاحياتهما، بين مؤيد ومعارض. ردود فعل الأصدقاء والقراء لا تمثل فى الواقع أى استثناء عن طبيعة الجدل العام المنتشر حول العلاقة بين الدولة والدين والسياسة والمجتمع فى دول أخرى كثيرة بعضها قطع شوطا كبيرا فى علمنة أو تديين الدولة.
الحقيقة وعلى الرغم من دراستى للعلوم السياسية لمدة اقتربت من العقدين كطالب وباحث ثم مدرس فإن أكثر الموضوعات التى كانت تشكل إرباكا شديدا لى هى المواضيع المرتبطة بالعلاقة بين الدين والدولة، لأسباب عديدة من ضمنها سياق التنشئة السياسية الذى مررت عبره قبل الدراسة الجامعية، واختلاط المفاهيم وتداخلها وعدم رغبة البعض الخوض فيها إما استجابة لابتزاز أصحاب الخطب الدينية البائسة المشيطنة لكل من حولها أو استجابة لاختبار (فى الواقع ابتزاز) الوجاهة الاجتماعية الذى لابد أن تمر به قبل أن تقبل بعض النخب الفكرية والثقافية وتجيز مرورك إلى مجالسها، أو حتى هروبا من المكايدات السياسية هنا أو هناك.
***
علاقتى بموضوع العلمانية والدين والدولة زادت وتعقدت مع زيارتى الأولى للولايات المتحدة فى ٢٠١٢ للعمل متطوعا فى حملة إعادة انتخاب الرئيس باراك أوباما فى ولاية نورث كارلولينا ثم ــ حيث أعيش الآن ــ فى ولاية كولورادو. ولايتان محافظتان ومتدينتان إلى الحد الذى يدفع الحزبين السياسيين الرئيسيين المتنافسين بهما (الجمهورى والديموقراطى) إلى الإبقاء على علاقات وصلات قوية مع الكنائس الرئيسية (بعضها كنائس للبيض وأخرى للأمريكيين من أصل أمريكى) من أجل تعبئة وحشد الناخبين بل والإبقاء على علاقات قوية مع المانحين المحليين لتمويل تلك الحملات.
دفعتنى هذه التجربة إلى المزيد من الانخراط فى الواقع السياسى للولايات المتحدة، فضلا عن القراءة المتعمقة فى تجارب دول أخرى فى أوروبا الغربية والشرقية وآسيا وأفريقيا ثم فى مرحلة لاحقة عن علاقات أديان بعينها بالسياسة مثل الكاثوليكية أو البروتستانتية أو اليهودية والبوذية والهندوسية فضلا عن تجربة الإسلام السنى والشيعى حتى توصلت إلى سبع نتائج علمية مثبتة بالطرق المنهاجية المتعارف عليها وهى:
• أولا: فى تجارب التحول بعد الحرب العالمية الثانية لم يوجد أبدا «الحل»، بل كان هناك خليط من «الحلول» بعضها جاء كتعبير عن تراكم خبرات دولية استفادت بها الدول المتحولة، وبعضها كان نتيجة لإبداعات عقول محلية استجابة لبعض الخصوصيات الثقافية أو المجتمعية، وبعضها الآخر جاء بهامش من المصادفة أو العشوائية الذى يسمح به التاريخ عادة من وقت لآخر بلا قواعد أو قوانين واضحة. إذن فالبحث عن «الحل» كمفتاح سحرى للقضاء على المشكلات والمعوقات مثل البحث عن «القائد» أو عن «الإسلام» أو«العلمانية» بالألف واللام هو من قبيل تضييع الوقت والجهد فيما لا يفيد، هو بمثابة مخدر سريع المفعول يتحول سريعا إلى محفز للصراعات الهوياتية والاستقطابات السياسية الخالية عادة من أى مضمون والأهم أنها لا تقود إلى أى نتيجة.
• ثانيا: العلمانية كانت «الحل» بالفعل فى بعض التجارب الناجحة وتحديدا فى أوروبا الغربية نظرا لظروف تاريخية من المستحيل إعادة إنتاجها الآن حتى فى الأراضى التى وقّع قادتها صلح ويستفاليا وأنهت الصراعات الدينية، لكنها فى التجارب الناجحة فى التحول فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث الاستجابة لديناميات الحرب الباردة وتجارب الموجة الثانية للديموقراطية، ثم مع تجارب الموجة الثالثة للتحول حيث انتهى آخر حكم عسكرى فى أوروبا الغربية (إسبانيا)، وأعادت أمريكا الجنوبية رسم علاقاتها بين الفاعلين المدنيين والعسكريين، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وتحول دول أوروبا الشرقية بدرجات متفاوتة من النجاح ناحية الديموقراطية والتعددية السياسية، أقول فى كل هذه التجارب لم تكن العلمانية هى «الحل» لكنها كانت أحد الحلول المتداخلة مع حلول أخرى لعبت فيها المؤسسات الدينية أو الفاعلون الدينيون أدوارا هامة، مما أحدث تحولا هاما فى أدبيات العلوم السياسية مع مطلع الألفية الثالثة نحو إعادة الاعتبار لدور الدين فى السياسة.
• ثالثا: تغيرت المعادلات السياسية كثيرا حتى فى الدول التى اعتبرت العلمانية عمودا من أعمدة التحول بها، فالدين جزء لا يتجزأ من الخطاب الرسمى الأمريكى، ومازالت كل العملات الأمريكية مطبوعا عليها عبارة «نحن نثق فى الله»، بل إن الدين كان أحد الأركان الرئيسية فى تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما دفع بعض العلماء للتساؤل عن حقيقة العلمانية فى أمريكا، كما أن الأمر مازال موضعا للسجال فى الداخل الأمريكى بين المحافظين والعلمانيين.
• رابعا: بسبب تعدد صيغ العلمانية فى أوروبا الغربية وموقفها من الدين فى الحياة العامة أو الخاصة، بين علمانيات متشددة كفرنسا أو علمانيات احتوائية كألمانيا أو انجلترا، فإن علماء السياسة والاجتماع قرروا أن يعيدوا تصنيف الدول بين علمانيات متشددة وعلمانيات مرنة ودول دينية ودول ملحدة. فمثلا رأى بعض العلماء أن دولا مثل الصين أو كوريا الشمالية أو الاتحاد السوفيتى المنهار لا يمكن تسميتهم حتى بالعلمانيات المتشددة، ولكن التصنيف الأقرب لهم هو الدول الملحدة، أى الدول التى تستبعد إلى أقصى درجة ممكنة دور الدين من الحياة العامة (وليس فقط السياسة)، وبينما بقيت الصين وكوريا الشمالية قائمة فإن الظاهرة اللافتة للنظر أن بعض دول أوروبا الشرقية التى انسلخت من الاتحاد السوفيتى عادت فيها المؤسسات الدينية (تحديدا الكنيسة الكاثوليكية) لتلعب دورا هاما فى السياسة والمجتمع على السواء.
• خامسا: عاد الدين منذ السبعينيات ليلعب دورا هاما يتزايد تدريجيا بمرور الوقت. فمنذ الثورة الإسلامية الإيرانية، تزايد دور الدين فى تشكيل محددات السياسة فى الدول الإسلامية، فماليزيا اعتمدت فى تحولها على معادلات توفيقية بين الدين والعلمانية من خلال صيغ فيدرالية ومن ثم قانونية بين اتباع الديانات المختلفة بحسب مناطق تركزهم، كما تزايد دور الدين كمحدد للسلوك التصويتى فى إندونيسيا وتركيا، فضلا عن تعاظم دور الفاعلين السياسيين المستندين إلى الدين فى التجارب المتعثرة ديموقراطيا فى مصر والأردن واليمن والكويت والمغرب والجزائر والسودان، وكذلك لبنان، ثم أخيرا بشكل أكثر نجاحا فى تونس. وبعيدا عن الدين الإسلامى، فيلاحَظ أن ثلاثا من الدول الديموقراطية (وفقا للمؤشرات الغربية) التى لا ينتشر فيها الإسلام قد عاد فيها دور الأحزاب ذات الصبغة الدينية وتحديدا فى اليابان حيث تمكن حزب كوميتو ذو الصبغة البوذية من الدخول فى الائتلافات الحكومية بشكل منتظم منذ مطلع التسعينيات، وفى الهند تمكن حزب بهاراتيا جاناتا ذو الصبغة الهندوسية من الصعود فى عالم السياسة الهندية منذ مطلع التسعينيات حتى أنه حصل على ٣١٪ من أصوات الناخبين ليحصد ٢٨٢ مقعدا من أصل ٥٤٥ فى انتخابات عام ٢٠١٤، مقارنة بمقعدين فقط كان قد حصل عليهما فى انتخابات عام ١٩٨٤ وبالحصول على نسبة لم تتجاوز ٨٪ تقريبا من أصوات الناخبين فى هذا الوقت. هذا فضلا عن الدور الذى لعبته الأحزاب الدينية اليهودية فى السياسة الإسرائيلية منذ نشأة الأخيرة وحتى اللحظة.
• سادسا: بعيدا عن السياسة، فإن دور الدين تعاظم فى المساحات الاجتماعية والثقافية وتحديدا مع مطلع التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، فكما أن الدين لعب دورا هاما فى تأجيج الصراعات المسلحة والعمليات الإرهابية وكان دافعا للعنف السياسى بشكل عام، فإن المؤسسات الدينية لعبت أدوارا هامة فى تقديم الخدمات الصحية والمساعدات الاقتصادية أو المرتبطة بشبكات التضامن الاجتماعى التى حاولت تعويض المساحة التى انسحبت فيها مؤسسات الدولة لصالح المؤسسات الرأسمالية العملاقة، وهو ما دفع البنك الدولى فى أكثر من مناسبة للإشارة إلى أهمية دور المؤسسات الدينية فى عملية التنمية ومحاربة الفقر.
• وأخيرا فإنه وفى حين كانت العلمانية طريقا للديموقراطية فى بعض الخبرات الغربية فإنها كانت أيضا طريقا للتغول على الحريات أو الديموقراطية فى خبرات سياسية أخرى، لأنها أولا لم تمنع فى الخبرة التاريخية عسكرة السياسة، كما أنها لم تحقق بالضرورة الديموقراطية أو الحرية، بل إنها فى بعض التجارب كانت مقوضا صريحا للحريات العامة كما حدث مثلا فى تجربة بورقيبة ومن بعده بن على فى تونس أو باكستان وقت حكم برويز مشرف.
لا تقودنا الملاحظات الفائتة بأى حال من الأحوال إلى التبسيط المخل للأمور والقول بأن «الدين» أو«الإسلام» هو الحل. فالدين، وكما سبق الإشارة مسبقا، كان أيضا دافعا للصراعات واغتصاب الحريات وإفشال خطط التنمية. ما تقوله هذه السطور أن العلاقة معقدة بين ثلاثية الدين والدولة والسياسة، وأنه لا توجد أولا معادلات ثابتة كما أنه لا يوجد ثانيا «الحل» ولكن هناك «الحلول» لواقعنا المعقد، هذه الحلول ستكون نتيجة لجهد تنظيرى وعملى يوازن بين المعطيات الثقافية والمجتمعية المحلية وبين الخبرات العالمية، ولأن ما فات كان مجرد عناوين، فسيحاول كاتب هذه السطور فى مقالات قادمة بعضها متصل أو منفصل، بحسب ظروف النشر، تناول هذه العناصر جميعا بمزيد من التفاصيل مع الإشارة قدر المستطاع للمراجع العلمية، لعل وعسى أن نبدأ بها صفحة جديدة فى تاريخنا السياسى.