متى لا تكون إسرائيل عدوًا؟ - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 9:13 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

متى لا تكون إسرائيل عدوًا؟

نشر فى : الأحد 26 أبريل 2009 - 5:51 م | آخر تحديث : الأحد 26 أبريل 2009 - 5:51 م

حين تصاب الأمم بإجهاد الحرب، ويفقد التيار الأعلى صوتا من النخبة بوصلة الاستراتيجية، ويظل راضيا عن الذات بسبب أن الأمة انتصرت فى آخر معاركها الكبيرة، فإن هذا التيار يخلق لنفسه عالما وهميا يستبعد منه كل احتمالات بل ودلائل الخطر مهما يكون حجمها كبيرا، ويركن إلى أمانى لا يسعى حتى إلى انتهاج السياسات التى تحولها من دائرة الأمنيات إلى دائرة الأهداف القابلة للتحقيق.

خذ مثلا حالة فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى.

فى فرنسا ارتاحت الأمة والنخبة إلى النصر الذى تحقق، والشروط القاسية التى فرضت على ألمانيا فى فرساى بما فى ذلك استرداد الألزاس واللورين، والأهم كان شعور الارتياح بالثأر لهزيمة عام 1870، وكما يقول الجنرال ديجول فى مذكراته فقد نسيت الأمة وأحزابها وكبار جنرالاتها نصيحة النمر بأن الاستعداد للحرب هو الذى سيحفظ نتائج الانتصار، لأن «القومية الألمانية المتطرفة» لم تمت، بل ستُبعث أكثر شراسة عندما تحين الظروف.

والنمر المقصود هنا هو جورج كليمنصو رئيس الوزراء الذى قاد فرنسا إلى الانتصار فى الحرب العالمية الثانية.

نعرف من التاريخ أن كل من تنبأ به كليمنصو حدث بصعود هتلر إلى السلطة فى ألمانيا، ورغم أن تلاميذ النمر واصلوا دق ناقوس الخطر بأعلى الضربات، وفى مقدمتهم الكولونيل «وقتها» شارل ديجول، وحليفه السياسى بول رينو، فإن الأمة والنخبة والجنرالات واصلوا صم الآذان، واستمرأوا الحياة فى عالم الأمنيات، بل واتهموا ديجول وأمثاله بأنهم يحيون فى الماضى، ولم يدركوا أن الدنيا تغيرت، وكان الماريشال فرديناند بيتان بطل معركة فردان التى حققت النصر النهائى لفرنسا والحلفاء فى الحرب الأولى هو المرجع الذى استمدت منه النخبة السياسية الفرنسية القدرة على الصمود فى وجه تلاميذ كليمنصو.. وطبعا حدث ما حدث فى الحرب العالمية الثانية التى قوضت العالم الوهمى لبيتان وحلفائه، وأثبتت أسوأ مخاوف ديجول وزملائه.

الشىء نفسه أو قريب منه حدث فى بريطانيا، حيث ظل ونستون تشرشل قبل أن يصبح رئيسا للوزراء يحذر وحده تقريبا من الروح القومية الألمانية المتطرفة، فطرد من الحكومة المحافظة، واستمرأ زملاءه وصفه بنذير الشؤم وتاجر الحرب، وردا على مبالغته المزعومة فى توقع الخطر، بالغ خصومه فى التفريط حتى سلم رئيس الوزراء نيفيل تشمبرلين تشيكوسلوفاكيا لهتلر أملا فى تهدئته، وتفادى الحرب، ولم ينس أن يصطحب معه فى توقيع هذه الصفقة المهينة رئيس وزراء فرنسا، بعد أن كان هتلر قد كسب تحطيم قيود فرساى، وأعاد تسليح بلاده، ودفع جيشه إلى ما وراء الراين، وضم النمسا.. إلخ، كذلك تطوع تشمبرلين ووصف معاهدة ميونيخ التى أعطت هتلر كل شىء بمعاهدة الشرف والسلام.. وكانت النتيجة كما توقعها تشرشل تماما.. إذ لم تشبع القومية الألمانية النهمة للتوسع والسيطرة والإبادة.. واندلعت الحرب العالمية الثانية.

بعد هذا الاستعراض لأهم دروس التاريخ الحديث، نطرح السؤال الذى أخذناه عنوانا لذلك المقال: متى لا تكون إسرائيل عدوا؟

إنه شرط واحد، ولكن تترتب عليه مجموعة واسعة ومهمة من الالتزامات والسياسات علينا وعلى الإسرائيليين.

هذا الشرط الواحد هو ظهور إسرائيل جديدة بلا روح عسكرية تتحفز لحماية أيديولوجية صهيونية متعصبة تؤمن بالقضاء العرقى، ولا ترى إمكانية للسلام والأمن إلا بالهيمنة العسكرية المطلقة.

وكما سنرى فيما بعد فليس صحيحا أن التطرف القومى فى إسرائيل يأتى ردا على التطرف فى الجانب الفلسطينى كما تمثله حماس، لكننا الآن نركز على إثبات حقيقة أن هذا التطرف القومى العنصرى الإسرائيل هو الخطر الحقيقى على السلام فى المنطقة، وهو ما يجعل إسرائيل عدوا دائما على الأقل عدوا محتملا فى كل لحظة للإقليم كله ولمصر بوجه خاص.

من المقتضيات الحتمية لعقيدة اليمين القومى والدينى فى إسرائيل إقامة إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر، أى ضم الضفة الغربية على الأقل، أما السبب الذى منع ــ ولا يزال يمنع ــ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من إصدار قرارات الضم، فهو استمرار وجود الشعب الفلسطينى فى هذه الأرض، فإما أن يعطوا صفة المواطنين، فتهدد يهودية إسرائيل، وإما أن يحرموا من هذه الصفة فتتحول إسرائيل رسميا إلى دولة عنصرية، ويتمثل الحل المنتظر ــ حسب تلك العقيدة ــ فى الترانسفير؛ أى تهجير الفلسطينيين بالقوة إلى الأردن وبقية الدول العربية، ولا يجادل أحد فى أن ذلك خطر محدق بالسلام، إن لم ينفجر اليوم أو غدا، فإنه سوف ينفجر بعد غد، ولن يكون سهلا ــ إن لم يكن مستحيلا ــ على أى دولة فى المنطقة أن تظل بمنأى عن النار إذا اندلعت، فعلى الأقل لن تسمح الشعوب بذلك، وهكذا سيتقوض السلام فى داخل هذه الدول نفسها.

وبفرض أن مثل هذا الاحتمال غير وارد فى الأجل القصير بسبب القيود الدولية على حركة اليمين الإسرائيلى، فإن بقاءه كحل أخير يحتم على إسرائيل الاحتفاظ بالتفوق العسكرى الكاسح على كل دول الإقليم، وهنا يجب أن ننتبه إلى أنه ليس صحيحا أن هذا التفوق العسكرى مرتبط فقط بعدم التوصل إلى اتفاقيات سلام بين إسرائيل وبقية الجيران، وببزوغ إيران كقوة عسكرية معادية للدولة الإسرائيلية، لأنه جاد وقت لم تكن فيه إيران قوة مهدِّدة محتملة لإسرائيل نوويا، وخاصة فى الفترة ما بين حرب أكتوبر وبدء عملية السلام وانتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ولم تظهر فى أى أدبيات استراتيجية إسرائيلية فكرة عدم الحاجة إلى التفوق العسكرى على كل دول الإقليم من باكستان إلى المغرب، ولأن إسرائيل لاتزال ــوسوف تظل، ما لم تغير عقيدتها ــ ترفض الانضمام إلى أى ترتيبات للحد من التسلح، وإلى معاهدة حظر الانتشار النووى، حتى بعد إحلال السلام الشامل، وحتى إذا سويت مسألة الملف النووى الإيرانى بما يمنع إيران من إنتاج الأسلحة النووية.

لكن النزاعات الواردة بين إسرائيل وجيرانها فى حالة التوصل إلى السلام الشامل والدائم وتسوية المشكلة الفلسطينية، وإقامة ترتيبات للأمن الجماعى تشمل إيران، لن تظل مقصورة على موضوع ترحيل الفلسطينيين بالقوة، فهناك دائما مشكلات تنشأ بين الدول وبعضها البعض من تجارية إلى سياسية، إلى أمنية،... إلخ.

بل تنشب مثل هذه المشكلات بين الحلفاء أنفسهم، فإذا ما ظهرت مشكلة من هذا النوع فى ظل تفوق عسكرى كاسح لدولة صغيرة متعصبة قوميا، تؤمن بالهيمنة، فلا يوجد ما يمنعها من ممارسة سياسة الإملاء والابتزاز، ولنتصور مثلا أن إسرائيل سوف تحيى مطلبها القديم المتمثل فى نصيب عادل «كما تقول» من تجارة وأموال النفط والغاز فى الإقليم.. أى إقامة خطوط أنابيب، ومصافٍ واستثمارات خليجية فى أراضيها، ولنتصور أن الدول العربية لن تستجيب لمثل هذا المطلب لأسباب سياسية واقتصادية، فكيف يمكن تفادى الإملاء الإسرائيلى حقا فى ظل هذا التفوق المنفرد للآلة العسكرية الإسرائيلية؟

وفى حالة مصر بالذات فى مواجهة إسرائيل، يصبح السؤال: كيف للدولة الأكبر سكانا وتاريخا ومكانة ومصالح فى الإقليم أن تحيا إلى الأبد بشعور الأمن والاسترخاء وعلى حدودها دولة تحتكر وحدها أسلحة الدمار الشامل وتتفوق فى الأسلحة التقليدية على الجيران؟، ألم يقل رئيس الوزراء الراحل مصطفى النحاس باشا للسفير البريطانى فى القاهرة مبكرا «عام 1936» وقبل أن تنخرط مصر فى القضية الفلسطينية: «إن وجود قوة مسلحة على نحو ما تفعل المنظمات اليهودية فى فلسطين على حدود مصر الشرقية يمثل خطرا شديدا عليها».

أكثر من ذلك، دعونا نفترض أن دولة أخرى فى المنطقة غير إسرائيل، أى دولة عربية مجاورة لمصر، هى التى تمتلك هذه القدرات العسكرية الرهيبة مقرونة بنزعات توسعية ومخططات هيمنة، فهل لا تكون هذه الدولة خطرا محتملا على مصر؟! ولماذا نذهب بعيدا، ألسنا هنا على بُعد آلاف الأميال نعتبر إيران خطرا على أمننا ومصالحنا بسبب نزعاتها التوسعية التدخلية، الناجمة عن نظامها الإيدلويوجى وبسبب طموحها العسكرى.. مع أنها حتى فى هذه الحالة أقل خطرا من حيث السوابق ومستوى التسلح، ومن حيث انتمائها الأصيل للإقليم تاريخا وحضارة وجغرافيا؟.

ونعود إلى القول المرسل الذى يطلقه البعض من أصحاب «الأمنيات»، ومضمونه أن التطرف فى إسرائيل هو رد فعل على التطرف فى الجانب الفلسطينى والعربى والإسلامى، فى إشارة إلى حماس وحزب الله وإيران، ولسوف نجد أن قليلا من الجهد للخروج من العالم الوهمى سوف يثبت أننا نخدع أنفسنا إذا صدقنا فى ذلك، فقد كانت إيديولوجية إسرائيل الكبرى ومعتنقوها موجودة دائما فقط بوابات الحركة الصهيونية، وعبرت عن نفسها فى منظمات مسلحة وأحزاب سياسية، حكمت إسرائيل بصفة متصلة تقريبا منذ عام 1976، ولم يكن هناك حماس ولا حزب الله ولا إيران، بل إن حزب الله هو الذى نشأ كرد فعل للاجتياح الإسرائيلى للبنان عام 1982، ولاستمرار احتلال الجنوب ضد تحريره، ولم تكن حماس قوة مؤثرة حين قاوم اسحق شامير بكل السبل ضغوط الرئيس بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر للذهاب إلى مدريد، كذلك لم تكن حماس وحزب الله قوتين مؤثرتين حين قال شامير ليلة سقوط حزبه فى انتخابات عام 1996 إنه كان ينوى التفاوض عشر سنوات دون أن يعطى الفلسطينيين شيئا، ولم يكن الفلسطينيون هم الذين اغتالوا اسحق رابين لأنه «تنازل» عن غزة وأريحا، ولم يكن أحد سوى شيمون بيريز الرئيس الحالى لإسرائيل هو الذى اتهم بنيامين نيتانياهو زعيم الليكود ورئيس الوزراء الحالى بأنه المحرض وراء اغتيال رابين فى سياق حملته البرلمانية ضد اتفاقيات أوسلو.

هل يريد أحد أدلة أكثر من ذلك على فساد الدفاع عن التطرف الإسرائيلى بتبريره بتطرف حماس وحزب الله وإيران.. إلخ؟.

باختصار شديد.. لا مفر من أن التطرف حيال إسرائيل بوصفها عدوا دائما، أو محتملا ما لم تفقد روحها القومية العنصرية المتطرفة، وقبل الاندماج فى الإقليم تحت القواعد المتعارف عليها للسلام والأمن الجماعى.. وفى المقدمة من كل ذلك الالتزام بالحد من التسلح والانضام لمعاهدة خطر الانتشار النووى..ولو بعد مرحلة انتقالية كافية. 
 

عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.