طرحت منذ عدة أشهر فى مقال لى بعنوان «هل وصلنا إلى نهاية التاريخ فى الشرق الأوسط» دعوة لقيام مصر رائدة الدول العربية بتشكيل لجنة لإعداد ثلاث ورقات عمل عن شكل الشرق الأوسط مستقبلا، وتعريف الأمن القومى، والعلاقة بين العالم العربى ودول الجوار، وقد سعدت بردود فعل إيجابية عديدة لهذا الطرح داخل مصر على المستوى الرسمى وغير الرسمى، وإن كنت لم ألاحظ أى خطوات عملية بعد ذلك للانتقال بهذه الفكرة إلى حيز النفاذ.
ومنذ أسابيع قليلة انعقد مؤتمر القمة العربى بمدينة سرت فى ليبيا بعد فترة إعداد وتمهيد بالغة الدقة والحساسية، فى ظل الإجراءات الإسرائيلية بالقدس الشرقية، ومعارك اليمن، والفجوة المصرية السورية، فضلا عن غياب الرئيس مبارك لأسباب مرضية، وانخفاض مستوى تمثيل العديد من الدول العربية من ضمنها المملكة العربية السعودية، ولبنان...إلخ.
ولا يخفى على أحد أن الرأى العام العربى تابع مرحلة الإعداد، بل انعقاد القمة ذاتها، بكثير من الشك فى قدرة القادة على اتخاذ القرارات التى ترتفع إلى مستوى الطموحات العربية، أو تتسق مع حجم الخطوات المطلوبة لمواجهة التحديات، والتهديدات التى تواجه العالم العربى. وخرج الرأى العام محبطا غير راضٍ عن نتائج القمة، ويشك فى إمكانية تفعيل القرارات التى اتخذت، ومدى التزام الأقطار العربية بها.
رغم ذلك، تقتضى الأمانة منى أن أعترف أن نتائج القمة فاقت توقعاتى الضعيفة لها، من عدة جوانب محددة، أولها أنه يجب أن نسجل لليبيا حسن إدارتها للاجتماعات بهدوء ودبلوماسية ومن منظور المصلحة العامة، عكس كل التوقعات، بأنها ستحاول الاستفادة من تجمع القادة العرب على أراضيها لإبراز دورها والترويج لأهدافها ومصالحها الوطنية على حساب المصلحة العربية، وهو ما لم يحدث، ولليبيا كل الشكر لذلك.
السبب الثانى كان أن المناخ العام الذى ساد القمة العربية جاء داعما لتحريك المياه الراكدة، واتخاذ خطوات نحو المصالحة العربية، وبات ذلك واضحا من التصريحات المصرية، والسورية، والقطرية، بصرف النظر عن أن أى مصالحة حقيقية ستحتاج لمزيد من الوقت والعمل الدءوب، لكى يكون لها مردود ملموس وصفة الاستقرار، وتحقق مصالحة حقيقية، وتعيد الحوار الجاد، بما يخدم مصالح تلك الدول، والعالم العربى أجمع.
ومن ضمن تلك الأسباب كذلك ما طرحه الأمين العام عمرو موسى من أفكار على الحضور، بشكل متجدد، ومنظور مستقبلى، فلم يتردد فى ذلك رغم أن المناخ الجدى الذى سبق المؤتمر كان كالمعتاد يتجه إلى الوراء أكثر من الأمام، ويستهدف فى المقام الأول تصفية الحسابات، أو اتخاذ مواقف كرد فعل لتحركات أطراف دولية أو إقليمية غير عربية، ويشهد للأمين العام طوال تحمله مسئولية رئاسة المنظمة الإقليمية العربية، وهى أقدم المنظمات الإقليمية الدولية أنه لم يتردد لحظة فى طرح أفكار على القادة العرب، والسعى لتحريك القضايا العربية إقليميا ودوليا، حتى عندما لم يكن هناك توافق عربى حولها، أو فرصة حقيقية لإقرارها، وأحيانا حتى فى غياب رغبة أو استعداد لتقبل أفكار جديدة وتفعيل للحراك العربى.
وكان جوهر ما دعا إليه الأمين العام إجراء حوار عربى مع مختلف دول الجوار الشرق أوسطى عدا إسرائيل، وهو الهدف الأساسى فيما اقترحه والأهم، بغض النظر عن ما قد يصحب ذلك من ترتيبات أو آليات.
وقد لفت نظرى من متابعة ما تناقلته وكالات الأنباء واتصالاتى خلال جولات لى أخيرا التباين الواسع فى ردود الفعل العربية لهذا الاقتراح، بعضها مؤيد بحماس ودون نقاش، وأغلبها ساكت أو متحفظ، وآخرون فى حالة تحفز وتوتر ولا يناقش الفكرة بجدية، رغم أنها فكرة تستحق أن تطرح لنقاش جاد، لتقييمها بشكل سليم، بإيجابياتها وسلبياتها، ولتوظيفها بشكل أكمل، لتنظيم الاستفادة، وضبط الإيقاع والتفاصيل.
لقد نوهت شخصيا فى مناسبات مختلفة أن العالم العربى يحتاج إلى مراجعة ذاتية، ونظرة مستقبلية شاملة، من حيث تناوله الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمصالحه، وأفكار عملية لكى يتم وضع برامج وآليات لتحقيق الأهداف التى تشملها نظرته للمستقبل.
ومازلت من أكثر المؤمنين بضرورة صيانة الهوية العربية، على أن يكون ذلك بشكل متجدد، ومتحضر، غير تقليدى، يعكس حقيقة حجم التوافق العربى ــ العربى دون مبالغة، وليستثمر ويتعامل مع تباين المواقف والمصالح بشفافية، ووضوح، ودون استهتار أو تهوين. فمن أهم نقاط الضعف العربى عدم وجود رؤية مستقبلية، يعقبها مباشرة عدم قدرة العالم العربى إدارة اختلافات وجهات النظر، أو تباين المواقف، دون المساس بالآخر أو التنكيل به، ويعنى ذلك عمليا عدم القدرة على قراءة المستقبل أو التعامل مع الواقع أو الحاضر.
وكنت أفضل أن نبدأ الحوار مع الغير من نهاية تقييمنا لأنفسنا، وحوارنا مع بعضنا البعض، وأعتقد أنه لا يمكن المبالغة فى أهمية سرعة بدء هذا الحوار العربى ــ العربى، حتى وإن كنا لم نصل إلى «نهاية التاريخ فى الشرق الأوسط»، فعلينا أن نتيقن وألا نغفل أن عجلة التغيير النى تربط بين الحاضر والمستقبل لا تتوقف انتظارا لأحد أو لمجموعة من الدول، حتى وإن كانت الأكثر عددا، أو سكانا، أو حتى ثراء فى أى منطقة فى العالم، وينطبق ذلك فى الشرق الأوسط، كما انطبق فى أوروبا ومناطق أخرى من العالم.
من هذا المنطلق لا أرى محالة من تفكير وتحاور العرب حول المستقبل وهو حوار تأخر كثيرا وطال انتظاره، وللأسف لا أعتقد أن الوقت يسمح بتأجيل التحاور العربى مع دول الجوار إلى أن ننتهى من حوارنا مع أنفسنا، فالتأجيل ليس خيارا متاحا لنا، والحوار ضرورة وواجب، فلا يمكن تجاهل أطراف مجاورة لنا من المغرب إلى المشرق إلى الخليج إذا كنا نأمل فى حماية مصالحنا، وهم أيضا أطراف لهم مصالح وحقوق، أردنا أم أبينا، فنجاحاتهم على حساب مصالحنا تارة، أو تفتح لنا مجالات وفرصا تارة أخرى، وأخطاؤهم أو كبواتهم لا تقف تداعياتها عند حدودهم فى عصر العولمة، والشفافية، وتبادل المعلومات، وحركة الأفراد، وانفتاح الأسواق.
ولا أجد غضاضة من الحوار مع الغير حتى وإن كنت على خلاف معهم، ومن الأفضل أن يكون هذا الحوار مباشرا بدلا من أن يتم عبر أطراف أخرى إقليمية أو دولية، تدخل اعتبارات، ومصالح غير قومية أو غير عربية على قنوات الاتصال، مما يضعف أى احتمالات للتوافق، أو إدارة الخلافات ويعطى لأطراف خارجية فرصة الاستفادة على حساب الأطراف الإقليمية.
ولا أعتقد أن الحوار العربى مع الغير يضعف من الكيان العربى ذاته، إلا إذا كنا غير واثقين من هويتنا، وحقيقة توجهاتنا، خاصة وهناك العديد من الدول العربية تتحاور فرادى مع دول الجوار، كان ذلك المغرب العربى مع غرب أفريقيا وأوروبا، أو بعض دول الخليج العربى مع إيران، أو المشرق العربى مع إيران وتركيا.
وأضيف إلى كل ذلك أن حوارنا مع الغير هو أمر يمكن أن يتم بشكل متدرج، وبآليات متنوعة فهذا الحوار ليس بالضرورة وفقا لنمط محدد أو وحيد، طالما حافظنا على التشاور فيما بيننا كعرب، لا يدعم بالضرورة مصالح الأطراف الأخرى على حساب العرب، فضلا عن أن أغلبها أطراف متحركة، ومتجددة تحاورنا معهم أو لم نتحاور، ودولا لها شرعيتها اتفقنا معهم أم اختلفنا.
لكل هذه الاعتبارات، فإن لدى قناعة قوية بأن الحوار العربى مع دول الجوار عدا إسرائيل حاليا، بما فى ذلك إسرائيل مستقبلا مع إنهاء احتلال عام 1967 ليس خيارا إنما حتمية، وأمر ضرورى، يخدم مصالحنا كدول عربية فرادى، وبشكل جماعى، طالما تم على أساس مفهوم واضح لأهدافنا واستعداد للمصارحة بما يسمح بالاختلاف والاتفاق.
فشكل المنطقة متغير ديمغرافيا، ومنهجيا، وعقائديا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا، ويجب أن يشارك ويساهم العرب فى رسم المستقبل بدلا من أن يُرسم لنا مستقبلنا بأيدٍ غير عربية.