لطالما توقفت مندهشة أمام تعبيرات المصريين عن أحوالهم: أحزانهم وأفراحهم بل أيضا وأعيادهم. عيد شم النسيم عيد مصرى أصيل لا يتكرر إلا فى مصر ولا يرتبط بدين كأعياد الفطر والأضحى والميلاد والقيامة، وإنما يعبر عن البهجة والألوان والروائح المختلفة. الروائح النفاذة لرائحة الفسيخ والسردين والرنجة والبيض والبصل الأخضر وربما الروائح المنعشة الذكية التى تعطر الأجواء قبل رائحة زهر البرتقال وأنواع الزهور والورود المختلفة التى يكتمل بهاؤها فى أيام الربيع.
فعل شم «النسيم» قد يختلف عن «شم الهواء» لدى المصريين، فتعبير نشم الهوا يأتى معبرا عن الإحساس بالاختناق والرغبة فى التنفس «تجريد» شم الهوا فعل الإنسان «المضطر» أما شم النسيم فهو فعل الإنسان المتوازن الذى يملك «الاختيار».
ماذا وراء تلك المقدمة التى أردت أن أبدأ بها لأهنئكم جميعا بأعياد القيامة وشم النسيم ثم أيام الشهر الفضيل الذى تتناهى إلينا نفحاته الكريمة ومظاهر الفرح باستقباله؟
الواقع أننى أتمنى لكم جميعا ــ وأنا معكم ــ أن تبدأوا رمضان «بشم النسيم» أو بمعنى آخر أن يتاح لنا أن نختار فى هذا الشهر الكريم بكامل إرادتنا أن نجعل منه شهر صحة وبهجة وسلام وعبادة.
إذا تحدثنا عن الصحة، فالصوم للقادر عبادة صحية فى المقام الأول فيها وبها يتخلص الجسم من الوزن الزائد والسموم التى تحيق دمارا بالخلايا وتضاعف من أسباب وهنها فى مواجهة المرض وجنوده من ألوان البكتيريا والفيروسات والفطريات.
الصوم مع قدر كاف من المياه والسوائل ووجبات صحية متوازنة من الخضراوات والفاكهة والأسماك واللحوم قليلة الدسم ومنتجات الألبان والمكسرات. أما أجمل ألوان البهجة ففى الجلوس إلى المائدة مرتين فى اليوم بانتظام فى جمع العائلة الذى يضمن السلام النفسى وتوازن الوجدان، ولو تدرون انه والله له شأن عظيم فى توازن النفس ومواجهة الضغوط النفسية بحزم.
إذا تحدثنا أيضا عن الصحة فتلك هى الفرصة الذهبية للمدخنين ليتوقفوا عن التدخين، فليس هناك ما هو أكثر أذى من سيجارة قبل صلاة المغرب مباشرة. إنها فرصة حقيقية للخلاص من أذى يلم بكل خلايا وانسجة الجسم. انحسار النيكوتين خلال فترة تزيد على خمس عشرة ساعة فى اليوم يمنحك يوميا فرصة للتخلص منه نهائيا. فإذا غلبتك نفسك فى الأيام الأولى فاستجمع إرادتك ولا تنه الشهر الكريم إلا وأنت بالفعل قد انتهيت من أمر التدخين.
لم يعد التليفزيون يا اصدقائى مصدرا للبهجة فى أيامنا تلك، فلا تستسلموا لطغيانه ومحاولاته المستمرة لتدمير مساحات من عقول من يتابعه من أفراد الأسرة، على اختلاف أعمارهم.. لقد اتخذت قرارا هذا العام بمقاطعة «تليفزيون رمضان» بمسلسلاته وإعلاناته التى تنشر موجة عاتية من سلبية الروح تغرقنا فى يمٍّ من الضغوط النفسية والإحباط.. إعلانات المنتجعات السكنية الفاخرة فى بلد عاصمتها ذات الألف عام مليئة بالعثرات العشوائية التى تشوه وجهها الصبوح الجميل وبشر فيها يعانون نقص الخدمات وينتظرون كرتونة «بنك الطعام» الذى يعلن بلا فخر أنه سيقضى على جوع عشرة ملايين هذا العام.. إعلانات السمن الصناعى الذى يسد شرايين البشر ويصيبهم بأشكال العجز المختلفة.. إعلانات التسول لمختلف المشروعات التى تدار للخير بعيدا عن الرقابة وتنافسها فى اصطياد لحظات ضعف البشر ورغبتهم فى رضا سبحانه بالانقضاض عليك وحنقك فى الوريد بجرعات من مظاهر الألم البشرى والأذى الجسدى للكبار والأطفال، الأمر الذى يجبرك على التبرع تحت ضغط الخوف إما من هذاا المصير أو من غضب الله سبحانه عليك.
لنبحث بإراداتنا عن «النسيم» لنشمه طوال «رمضان».. أعاننا الله على دنيانا، أما ديننا فالحمد لله أن هدانا إليه.
كل عام ومصر كلها بخير.. ورمضان كريم.