أعيش فى أيام غريبة. وأظن أن كثيرين مثلى وقعوا على هذا الكشف المثير. اكتشفت بعض غرابتها عندما أمسكت ليلة أول أمس بعلبة دوائى لأبتلع منها أقراصا خصصها الطبيب لتكون آخر ما يدخل جوفى قبل النوم. ترددت متسائلا إن كنت لم أخطئ وأننى ربما أتناول هذه الأقراص مرتين متلاحقتين. كدت أكون واثقا من أن يوما كاملا بليله ونهاره لم ينقض ليحل موعد هذه الدفعة من الأقراص. استغربت ترددى وقد صار خلال الأسابيع الأخيرة طبيعة ثانية لتصرفى قبل النوم، تصرف من لا يصدق أن يوما انقضى ويوما آخر يبدأ وأنا بالكاد أذكر أننى عشت هذا اليوم الذى انقضى. تلاحقت الأيام عندى حتى تلاصقت ففقدت أسماؤها واختلطت أرقامها. أخاف أن تكون مخاوفى على حق فنخرج من هذه الأيام الغريبة بلا تاريخ. فالتاريخ كما علمنا أولادنا وأحفادنا سجل أعمال، أما الأيام التى عشناها لم نفعل فيها شيئا نذكره فأيام غير محسوبة، أيام بدون سوابق، أيام بدون مستقبل.
***
هلت ليلة العيد. أويت مبكرا للفراش وابتلعت أقراص الليل بعد تردد صار مألوفا. فجأة انتصبت فى فراشى متمردا. لا لن أنام وحدى. لن أقضى ليلة العيد بدون صحبة. هات الذكريات ننهل منها ما يخفف عنا شعور الوحدة والعزلة. بالفعل دبت فى أوصالى دماء شباب فالليلة التى جادت بها الذكريات كانت ليلة عيد. المكان بيت العائلة المطل من جهة الجنوب على شارع مرجوش ومن الشمال على حارة الوراق. امتدت سهرتنا.. كانت الليلة كعادة كل ليلة عيد يلتئم فيها جمع شباب العائلة، أى كل من تجاوز الرابعة عشرة من عمره أو عمرها. وفى شجرة عائلتنا هن الكثيرات والذكور قليلون. وظيفتنا المكلفون بها من كبيرة العائلة فى تلك الليلة الإشراف على عمليات عجن وحشو ونقش كعك العيد والاطمئنان إلى أن ما غادر بيتنا محمولا على رءوس الفتية عجينا محشوا وكامل التزويق عاد من الأفران كعكا مخبوزا لم ينقص كعكة أو أكثر إلا بإذن مسبق أو تكليف صريح من سيدة المكان.
اقترب الفجر وبدأت عودة صاجات الكعك من الأفران. بدت صفوف الكعك لعيون الصبايا المجردة، وإن ناعسة، سليمة لم تمس. باكتمال العد والحصر صدر الإذن بإغلاق الصالة على ما فيها من كعك فى الصاجات ليبرد فى أمان. هدأت الحركة وتوقف الغناء والرقص وبدأت القاعة تخلو من شباب العائلة والشغالين.
التفتت ناحيتى بعد أن أغلقت خلفنا الباب بمفتاح أسود غليظ وثقيل، قالت بصوت بين الهمس والتثاؤب، النوم غافلنا يا ابن خالتى وطار من تحت جفوننا. تعالى معى نجلس فى هذا الركن النائى من «السطوح» نشرب قدحين من الشاى ونستكمل حديثا قطعته حاملات الصاجات وهن فى طوابيرهن يغنين لليلة العيد والفرانون على بعد خطوات ينتظرونهن على نار الفرن.
يا ألله... ما أحلى الذكريات فى ليلة عيد. بدونها وبدون طلة أم كلثوم بمطلع أغنيتها فى الليلة ذاتها على مر السنين ما كنت أحسبها ليلة عيد.
***
سرقوا منها، ومن كل أيام العيد، الأحضان. خبيث وشرير من أدخل الحضن فى السياسة الدولية. أوصيتهم ألا يفعلوا ولكن فعلوا. هل احتفلنا ذات عيد ولم يكن الحضن على باب بيتنا منتصبا فى شموخ وكبرياء فى انتظار وصول المعيدين وعند رحيلهم، ومتنقلا بينهم داخل قاعات البيت وغرفه ومطابخه مرحبا وناشرا عطره وبشره. لا أعرف كيف سمحوا بقرار الابتعاد الاجتماعى قبل أن ينتبهوا إلى أنه يمس بالمنع حقا أصيلا من حقوق الناس. الأطفال غاضبون. هذه معلومة. فإن لم تصدقونى اسألوهم. أما إن كانوا دون سن الكلام يكفى أن تنظر إليهم لتحصل على حضن تلقائى. يعرفونه ويحترمونه منذ كان سبيلهم الأمثل إلى مركز الحنان والحب والدفء فى هذا الكون البارد الذى ولدوا فيه.
الشبان أيضا غاضبون. هم أيضا يعرفونه ويحترمونه. ألم تكن الأحضان وسيلتنا إلى اكتساب مناعة ضد سوء الغرض، ألم تكن دائما هى الترمومتر، أو الجهاز الأدق لقياس العاطفة وتمييز الصادق من الزائف. هم غاضبون لأنهم بهكذا قرار لن يقيموا علاقات سوية ولن تقوم الثقة بين المتحابين. ارجعوا عنه. رجاء ومن أجل خلق بيئة مشجعة للشباب على الإبداع والانطلاق استثنوا الأحضان من قائمة مكونات الابتعاد الاجتماعى.
أنا أيضا غاضب. وأعرف أن كل من كان فى عمرى رجلا أم امرأة، غاضب. بالله عليكم ما كل هذا الاستهتار بحقوق كبار السن. كيف ومن أبلغكم أن الفيروس جاء خصيصا ليقضى على كبار السن. لم نتأكد من رغباته وأهدافه. رأيناه يستهدف المشاهير فى الفن والسياسة والمجتمع ولكننا لم نخلص إلى نظرية أو قصة محبكة تخص فئة بعينها من البشر. أعرف، وتعرفون، أنه لم يكشف بعد عن هويته أو الرسالة التى يحملها لكم. لا أحد حسب علمى يستطيع الزعم أنه أمركم بتعذيب كبار السن فى مجتمعاتكم واعدادهم لهجمة عليهم ما زال يحشد لها القوة اللازمة. هل، على هذا النحو تعربون عن وفائكم لمن قضوا العمر يحمونكم بأحضاننا من مصادر الشر، يحمونكم من لسعات البرد والخيانة والكيد والوحدة والملل والضياع والتردد ونزلات اليأس والحرمان. نراكم تحتشدون اليوم لتحرمونهم من الحضن بدلا من أن تلموا الشمل وتتعاونوا فلا يعيش مواطن إلى آخر يوم فى حياته بعيدا عن حضن.
***
حقا أنها لأيام بدون سوابق وبدون أسماء وبدون تواريخ.