معارك العرب الخاسرة - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معارك العرب الخاسرة

نشر فى : الأحد 26 يوليه 2015 - 9:20 ص | آخر تحديث : الأحد 26 يوليه 2015 - 9:20 ص
ما إن توصلت إيران إلى اتفاق مع الدول الخمس من الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا بخصوص برنامجها النووى «اتفاق ٥+١» فى فيينا، منتصف الشهر الحالى، حتى ظهرت ردود فعل تتراوح بين التشنج والحذر من معظم العواصم العربية. ظهر هذا التشنج من مثقفين وساسة ودبلوماسين وأكاديميين عرب، أعربوا فى معظمهم عن خيبة أمل حيال هذا الاتفاق الذى من شأنه أن يعطى مزيدًا من القوة والتأثير للدور الإيرانى فى المنطقة الملتهبة على حساب القوى العربية الإقليمية لاسيما فى منطقة الخليج العربى والهلال الخصيب فضلا عن مصر. ربما لم يتفوق عن هذا التشنج العربى سوى ردود الفعل الإسرائيلية التى أقامت الدنيا ومازالت محذرة من الخطر الإيرانى.

ورغم أنه من المبكر أن نحكم بشكل نهائى على الآثار السياسية لهذا الاتفاق على المنطقة، ورغم أن الكونجرس الأمريكى قد يحاول عرقلة الاتفاق أو على الأقل تأجيل تطبيقه فى ظل حملة شرسة يشنها نواب من الحزب الجمهورى ضد الإدارة الأمريكية والرئيس أوباما، إلا أنه وبشكل مبدئى يمثل انتصارًا للدبلوماسية الإيرانية فى الساحتين الإقليمية والدولية، كما أنه يمثل حرجًا بالغًا لبعض الدول العربية التى تبذل الغالى والنفيس لإبقاء تحالفها مع الولايات المتحدة حيًا على حساب ثوابت كثيرة سياسية وأيدولوجية، وفى النهاية لا تجنى سوى عدم النجاح وخيبة الأمل.

***

هنا نكون أمام سؤالين رئيسيين، الأول: لماذا يخسر العرب عادة معاركهم السياسية منها والأمنية لصالح منافسين يظهرون أقل قوة ونفوذا وثروة؟ أما الثانى: فهو عن الكيفية التى يمكن بها إعادة الاعتبار للقوة السياسية العربية فى المنطقة؟ ورغم أن السؤالين محل البحث يفترضان أن العرب لديهم فعل سياسى موحد بأهداف متفق عليها، وهو افتراض غير دقيق بالقطع، إلا أن بذل بعض الجهد لإبراز أوجه الخلل فى الفعل السياسى العربى يظل هامًا لتسليط الضوء على حقيقة الأزمات العربية إقليميًا ودوليًا. ولمحاولة الإجابة على السؤالين، أحاول أن أضع أربع ملاحظات مبدئية فى هذا السياق:

أولا: يفشل الفعل السياسى العربى لصالح منافسين إقليميين مثل إسرائيل وإيران وتركيا فى الكثير من القضايا محل التنافس بسبب أزمات هيكلية فى معظم مراكز صنع القرار فى الدول العربية، فهذه المراكز تعانى من ضعف معلوماتى شديد، مما يسهل معه على المنافسين تقديم معلومات مغلوطة، تساهم فى تقدير موقف غير دقيق يوقع العرب فى ورطات إقليمية الواحدة تلو الأخرى. كما تعانى هذه المراكز أيضًا من هيمنة وسلطوية شديدة من أصحاب الثقة لانتماءاتهم القبلية أو العائلية، تنعدم فى معظمهم الكفاءة ويعظمون من قيم الولاء على حساب قيم الإنتاج والإنجاز، فضلا عن مشاكل أخرى تتنوع بين شخصنة عملية صنع القرار وعدم تعبيرها عن أى عمل مؤسسى وصولا إلى الخوف من إغضاب أولى الأمر ممن يستقرون على رأس السلطة ومحاولة تقديم حلول مرضية لهم ولمزاجهم الشخصى بعيدًا عن الواقعية والبراجماتية. ورغم أن الكثير من المراكز البحثية الغربية المرتبطة بدوائر أكاديمية أو سياسية تحصل على دعم مالى عربى كبير، إلا أن هذا الدعم عادة يكون فقط مرتبطا بما يجب أن تسكت عنه هذه المراكز وليس ما يجب أن تفعله لدعم أى رؤية أو استراتيجية. وهذا على عكس دور مراكز البحث والتفكير الاستراتيجى الإيرانية أو التركية، فى محاولة خلق شبكة علاقات مع نظرائها فى الغرب، لتبنى مواقف دولها الرسمية لدى صناع القرار.

ثانيا: يفشل الفعل السياسى العربى عادة أيضًا بسبب عدم وضوح أو صياغة أى استراتيجية موحدة حول أولويات السياسات الخارجية للدول العربية نحو محيطها الإقلميى أو الدولى. رغم أن عددًا كبيرًا من الدول العربية لاسيما الخليجية، تتمتع بنظم حكم مستقرة إلى حد بعيد، إلا أن عدم وضوح الرؤية أو صياغة استراتيجيات محددة بآليات تنفيذ عملية نحو مناطق التنازع أو النفوذ، يساهم بقوة فى ضعف موقف المفاوض العربى ويغل من يد القائمين على عملية صنع القرار السياسى لاسيما فى ظل بيئة سياسية إقليمية سريعة التغير وفى ظل منافسة شرسة من المنافسيين الإقليميين. وعلى العكس من ذلك، فقد وفر داود أوغلو ورفاقه فى حكومات تركيا المتعاقبة منذ ٢٠٠٢، استراتيجية شديدة الوضوح والطموح بآليات عملية مكنت تركيا، ضمن عوامل أخرى، من المنافسة الإقليمية لسنوات قبل أن تتعطل أخيرًا بسبب جمود أردوغان الفكرى وتعثره السياسى، وكذا الحال فى إيران والتى اتخذت من برنامجها النووى سياسة فاعلة للمناورة داخليًا وخارجيًا منذ الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩ وحتى التوصل إلى الاتفاق المؤخر، منتصف الشهر الحالى. فى مقابل ذلك فإن الغالبية العظمى من الدول العربية لديها سياسة خارجية تعتمد بالأساس على أسلوب رد الفعل والتفكير قصير الأجل مع جهل عميق بطبيعة التطورات الإقليمية والدولية بل وحتى عجز شديد عن فهم التطورات الحالة فى بيئتها الداخلية.

ثالثا: تعانى معظم الدول العربية من ضعف شديد فى مؤسساتها التعليمية، ينعكس بشدة على كفاءة ومهارة ساستها وكوادرها، مما يؤثر وبشدة على عملية صنع السياسات العامة داخليًا وخارجيًا، وينتج فى النهاية ساسة هم أقرب للموظفين الذين يعملون بسياسة اليوم بيومه منهم للسياسيين القادرين على المناورة والتفاوض والتخطيط. ففى حين أن معظم القائمين على عملية صنع القرار السياسى فى الدول العربية إما من البيروقراطيين شديدى الانغلاق والانفصال عن العالم الخارجى أو إنهم من المتعلمين غير القادرين على فرض الرؤية المستقلة بسبب الضغوط الهيكلية المذكورة فى الملاحظة الأولى، فإن دولة مثل إيران لديها أحد عشر عضوًا فى الحكومة المؤلفة من ثلاثة وثلاثين عضوًا «مشتملة نواب مجلس الوزراء» حصلوا على درجاتهم العلمية من دول غربية «أى بواقع الثلث»، ودولة أخرى مثل تركيا والمعروفة بتطور نظمها التعليمية لديها تسعة من أصل ستة وعشرين عضوًا فى الحكومة «التى مازالت قائمة لحين اختيار حكومة جديدة» حصلوا على درجاتهم العلمية من دول غربية «بواقع الثلث أيضًا». أما إسرائيل والتى تتمتع بارتفاع شديد فى مستوى جامعاتها ومؤسساتها العلمية فلديها خمسة من أصل واحد وعشرين عضوًا فى الحكومة «غير مشتملة نواب الوزراء» حصلوا على درجاتهم العلمية من الخارج أو انتسبوا لمراكز بحثية غربية فى فترة من حياتهم العملية. المسألة هنا لا ترتبط فقط بمكان الحصول على الدرجة العلمية، ولكنها ترتبط بفهم عميق لثقافة وبيئة صنع القرار فى مجتمعات الدول الكبرى، فضلا عن تكوين شبكة علاقات مع دبلوماسيين وساسة فى هذه الدولة يتمتعون داخلها بالثقة ويتمكنون من خلالها من تحقيق بعض أهداف السياسة الخارجية لدولهم. ولعل السيد جواد ظريف وزير الخارجية الإيرانى ومهندس الاتفاق النووى الحالى، خير مثال على ذلك، فقد عاش معظم فترة الثمانينات فى مدينة دنفر الأمريكية قاصدًا كلية العلاقات الدولية بها وهى نفس الكلية التى حصلت منها كونداليزا رايس على درجة الدكتوراه وأسسها السيد جرزيف كوربل والد السياسية الأشهر مادلن أولبرايت، وترتبط بعلاقات واسعة مع سفراء وساسة أمريكان من الحزبين الجمهورى والديموقراطى، فضلا عن عدد كبير من العسكريين السابقين والحالين. وقد استغل السيد جواد هذه الشبكة، نحو محاولة إنجاح الاتفاق النووى وتحصل على هدفه ولو مؤقتا.

وأخيرًا وليس آخر تأتى هيمنة الأجهزة الأمنية على عملية صنع القرار العربى لتعيق الفهم الأشمل لطبيعة التوازنات والعلاقات الدولية، ولتسهم بشكل دائم فى زيادة الفوبيا الأمنية والترويج لأساطير المؤامرات، دون وضع حلول فاعلة أو أساليب عملية للمواجهة مع الأعداء المزعومين، بل وتكون النتيجة تناقض شديد بين الأعداء المعلنيين وبين طبيعة وحجم التعاون والتنسيق معهم على مختلف المستويات من وراء الستار وأمامه أيضًا، فضلا عن أن المزيد من فرض السرية وعدم الشفافية التى تضعها هذه الأجهزة الأمنية على كل معاملة حكومية بدعوى حفظ الأمن القومى، فإنها عادة لا تنتهى سوى بنتائج عكسية تزيد من قيمة المعلومة وتحفز المنافسين على اصطيادها بأى ثمن.

***

ستستمر الدول العربية فى خسارة معاركها مع المنافسين الإقليميين، وخسارة رهاناتها على الحلفاء الدوليين مهما أنفقت من موارد وضحت بثروات، لأن كل ذلك لا يتم فى إطاره الصحيح وفى ظل علاقات قوة غير متوازنة ولا مفهومة بدقة لصناع القرار المنخرطين فيها، وليس أمامها سوى طريقين، فإما مزيدا من الانفتاح يوفر حد أدنى من العلم والكفاءة والمهارة والتعددية والانفتاح والانحياز للمكونات المدنية فى عملية صنع القرار نحو التوازن مع المكونات الأمنية مع المزيد من الدفع للشباب والباحثين والأقليات فى المراكز السياسية البارزة والسيادية أو المضى قدمًا فى طريق الانغلاق والسرية والمركزية مع استمرار تأميم المجال السياسى والعام نحو مزيد من الخسائر.

من السهل أن نلعن المنافسين فى الإقليم أو أن نسب حلفاءنا الدوليين لتلاعبهم بنا، أو أن نطالب دولنا بالتخريب المتعمد فى الساحة الداخلية للخصوم، ولكن الأصعب أن نقف على معضلاتنا السياسية والأمنية التى تجعلنا دائما لقمة سائغة للآخرين.

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة
باحث زائر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر.
أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر