يستوجب تمرير مقترح تركيا الخاص باضطلاع قواتها المتمركزة فى أفغانستان بمهام إدارة وتأمين مطار العاصمة كابول، ذى الأهمية الجيواستراتيجية، وحماية بقايا القوات الأمريكية والأطلسية، وحراسة البعثات الدبلوماسية الأجنبية، عقب إنهاء الوجود العسكرى الغربى هناك، نسج شبكة حماية سياسية واقتصادية وعسكرية ولوجيستية محكمة ومتناغمة. وما بين حتمية تلقى مساندة الولايات المتحدة والحلف الأطلسى، مرورا بعدم ممانعة حركة طالبان وحكومة كابول ودول الجوار الأفغانى، وصولا إلى ضرورة موافقة الداخل التركى، توشك الرياح أن تأتى بما لا تشتهى السفن التركية، الطامحة إلى عبور الخضم الأفغانى، والرسو فى مرافئ آسيا الوسطى والقوقاز، حيث الثروات والمغانم الاستراتيجية، التى يتلهف الأتراك للظفر بها.
فما برحت القوات التركية العاملة فى أفغانستان منذ عام 2001، ضمن مهمة «الدعم الحازم» الأطلسية، تفتقد للجهوزية التى تخولها تحمل مسئوليات حساسة فى بيئة جيوسياسية مضطربة. فمن حيث الإمكانات، لا يتخطى تعداد تلك القوات 500 مقاتل، بتسليح خفيف، ويؤدون مهام غير قتالية تنحصر فى أعمال التدريب، وإدارة بعض المشاريع، وضمان الأمن بمحيط العاصمة كابل، فضلا عن التموضع فى مطارها، الذى يتولون تشغيل الشطر العسكرى منه منذ ست سنوات. وبينما يستبعد وزير الدفاع التركى، خلوصى أكار، إرسال بلاده أية قوات نظامية إضافية إلى أفغانستان، لم تبد واشنطن أو الناتو موافقة نهائية على مطلب أنقرة بتزويد قواتها هناك بدعم مالى ولوجيستى وعسكرى لإتمام مهامها المقترحة، فيما لايزال مطار كابول وقصرها الرئاسى يشكلان هدفا لقصف متكرر بالقنابل والصواريخ من قبل فصائل مسلحة على شاكلة طالبان، و«داعش»، والقاعدة.
متعثرة تبدو مساعى أنقرة لاستثمار أوراقها العقائدية والإثنية فى أفغانستان؛ فرغم علاقاتها الممتدة والمتشعبة بتركيا، ترفض حركة طالبان، التى تدعى سيطرتها على غالبية الأراضى الأفغانية، أى دور مستقبلى للأتراك فى بلادها، إبان حقبة ما بعد الانسحاب الأمريكى والأطلسى. ولثنيها عن استبقاء قواتها فى أفغانستان، وجهت الحركة تحذيرات شديدة اللهجة لأنقرة، بأنه سيتم اعتبار أى وجود عسكرى أجنبى فى البلاد احتلالا عسكريا تتعين مقاومته. وفى معرض تنديدها بمقترح الأتراك لحماية مطار كابول، أكدت افتقاره للحكمة، كونه يمثل انتهاكا لسيادة أفغانستان، ووحدة وسلامة أراضيها، كما يناهض مصالحها الوطنية، لافتة إلى أن أمن السفارات والمطارات القائمة فى البلاد سيغدو مسئولية حصرية للأفغان.
وبعدما توسطت قطر فى مفاوضات بين واشنطن وطالبان، ما أسفر عن توقيع اتفاق تاريخى أواخر فبراير 2020، يقضى بانسحاب أمريكى من أفغانستان، وتبادل للأسرى، وإطلاق مباحثات سلام، رفضت الحركة المشاركة فى مؤتمر سلام دعت تركيا لعقده باسطنبول فى أبريل الماضى بدعم أمريكى قطرى، فى الوقت الذى وافقت الحركة، لاحقا، على المشاركة فى حوارات تجمعها بالحكومة الأفغانية برعاية إيرانية. الأمر الذى يشى بحرص طالبان على تقويض مساعى إردوغان للاستعانة بالدعم القطرى من أجل تغيير موقف الحركة إزاء المهمة التركية المقترحة فى أفغانستان، استنادا على رفض طالبانى لأى دور تركى يستبطن النية لاتخاذ أفغانستان مطية لترميم علاقات أنقرة المهترئة بحلفائها الغربيين، ونقطة انطلاق للتغلغل فى ربوع أسيا الوسطى.
لا تنظر الحكومة الأفغانية بفيض ارتياح لإسناد مسئولية أمن مطار كابول إلى القوات التركية، مخافة أن يغذى الشكوك بشأن كفاءة القوات الأمنية والعسكرية الأفغانية، بما يخلف تداعيات نفسية سلبية على معنوياتها، كما سيفضى إلى تآكل الثقة بين الشعب الأفغانى وحكومته، بالقدر الذى ربما ينال من هيبة الأخيرة وشرعيتها. لذا، وبالتزامن مع تشجيع الرئيس بايدن لها كى تتحمل مسئولية ضمان الأمن فى العاصمة كابول، شرعت السلطات الأفغانية، مؤخرا، فى نشر منظومات للدفاع الجوى، لم تكشف عن نوعيتها ولا عن الجهة التى قامت بنصبها، فى محيط مطار حامد قرضاى، لتحصينه ضد أية ضربات صاروخية محتملة من جانب مقاتلى «طالبان».
بحساسية مفرطة، قوبل المقترح التركى حيال أفغانستان، من جانب دول الجوار الأفغانى، لاسيما روسيا، وإيران، والصين، وباكستان، التى تلمس فيه حيلة من أنقرة لتعظيم نفوذها الإقليمى وسط بؤر تدرجها تلك الدول ضمن دوائر أمنها القومى ومصالحها الاستراتيجية. ولعل هذا ما يفسر تأكيد موسكو، أواسط الشهر المنقضى، على أن المخطط التركى لضمان أمن مطار كابول ينتهك الاتفاقات المبرمة مع حركة طالبان، ثم إعرابها عن قلقها إزاء التمدد التركى باتجاه أذربيجان، وأوكرانيا، وغيرها من البقاع الجيوسياسية الحيوية بالنسبة لموسكو، بما يفاقم خلافاتها مع أنقرة، التى لم تتورع بدورها عن استفزاز الروس بتأكيدها عقب توقيع «إعلان شوشة» مع أذربيجان يوم 16 يونيو الماضى، عزمها إقامة قاعدة عسكرية تركية هناك. وبينما يؤجج الدور التركى المتنامى فى أفغانستان نيران التنافس بين أنقرة وطهران على المسرح الأفغانى؛ الذى تتصادم مصالح الطرفين فيه، على وقع تفاعل الانقسامات الطائفية، والصراعات السياسية، مع التداخل الجغرافى، تنظر الصين ببالغ القلق إلى أى تحرك جيوسياسى تركى، غير منبت الصلة بالغرب، داخل أفغاستان، فى الوقت الذى تتصاعد حدة التوترات بين واشنطن وبكين، على أكثر من جبهة.
خلافا لموقفها المتراخى حيال التدخل العسكرى التركى فى سوريا وليبيا والعراق وأذربيجان، وانطلاقا من اعتقادها بأن البقاء فى أفغانستان لا يشكل ضرورة حيوية لأمن بلادها القومى، ترفض المعارضة التركية، كما أوساط داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، استمرار وجود قوات بلادها فى أفغانستان، أو إرسال المزيد منها إلى ذلك المستنقع الملتهب عقب انسحاب القوات الأمريكية والأطلسية منه. بموازاة ذلك، يتخوف الأتراك من أن تتمخض استضافة بلادهم زهاء نصف مليون نازح أفغانى، يشكلون ثانى أكبر تجمع للاجئين بها بعد نظرائهم السوريين، مع تعاظم مخاطر تحول تركيا إلى جسر لعبور اللاجئين الأفغان إلى أوروبا، عن اندلاع أزمة إنسانية، بالتزامن مع اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية، واحتدام التوتر بين أنقرة والاتحاد الأوروبى، بجريرة معاودة تدفق موجات المهاجرين واللاجئين من تركيا صوب اليونان وقبرص.
وفى حين يفتح الانسحاب الأمريكى والأطلسى من أفغانستان، قبل إتمام برامج تأهيل المنظومة الأمنية والقوات العسكرية للأخيرة، الباب على مصراعيه لإعادة تموضع الحركات المتشددة والمتطرفة، كمثل تنظيمى «داعش» والقاعدة، فى أرجائها مجددا، تتفاقم احتمالات انبعاث الحرب الأهلية على غرار ما جرى فى تسعينيات القرن الماضى بعد انسحاب الجيش الأحمر السوفيتى. ما يجعل المهمة التركية المقترحة بعاصمة «مقبرة الإمبراطوريات»، أشبه بالانتحارية.
من هذا المنطلق، انهالت الانتقادات من المعارضة التركية على صفقة إردوغان المستعصية بشأن أفغانستان. فمن جانبه، وجه كمال قليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهورى، أكبر أحزاب المعارضة، رسالة ضمنية إلى واشنطن وبروكسيل، أكد خلالها رفضه بقاء القوات التركية فى الميدان الذى هرب منه البعض، أو تحويل بلاده إلى سجن للاجئين الأفغان. كذلك، تهكم فائق أوزتراق، المتحدث باسم الحزب، على إردوغان بالقول: «إذا كنت متحمسًا بخصوص أفغانستان، فلترسل إليها شركة «صادات» للخدمات الأمنية، أو الجيش السورى الحر». بدوره، استنكر على بابا جان، رئيس حزب الديمقراطية والتقدم المعارض، تمسك إردوغان على استبقاء القوات التركية بأفغانستان بغير تفويض من الأمم المتحدة أو البرلمان التركى، متهما إياه بتسخير مقدرات البلاد، والمقامرة بأرواح الجنود الأتراك توطئة للقيام بدور الشرطى لواشنطن، وخوض حرب بالوكالة لمصلحة الناتو، ابتغاءً لمرضاتهم، وخدمة لمآربه السياسية.
رغم تفننها فى تسويق دورها الوظيفى كوكيل للغرب فى المنطقة، لا يزال مصير صفقة أنقرة بشأن عملية أفغانستان مبهما. ويبدو أن تزامن تشبث إردوغان بشروطه لإتمام تلك المهمة، مع إصراره على استبقاء بلاده فى غياهب العزلة الدولية، بزيارته الأخيرة لشمال قبرص وما تضمنته من قرارات استفزازية وإجراءات تصعيدية، قد ألقى بظلال من الغيوم على موقف الغرب الغامض إزاء العرض التركى. فأطلسيا، ورغم ترحيب الناتو الحذر، لم يُبد الحلف استعداده لمؤازرة القوات التركية أو توفير الغطاء الجوى لها، بينما يتحفظ على مشاركة باكستان فى المهمة التركية المقترحة، جراء تورط إسلام أباد فى دعم طالبان.
وأمريكيا، تؤكد واشنطن أن المفاوضات مع تركيا بشأن دور الأخيرة المرتقب فى أفغانستان لم تؤت أكلها بعد. ففى حين يتحفظ المجتمع الدولى على نية إردوغان نقل مرتزقة سوريين إلى أفغانستان بإشراف الاستخبارات التركية، تؤكد واشنطن التزامها مواصلة حماية بقايا قواتها هناك وتأمين مطار كابول. وبينما لا يفتأ قائد القوات الأمريكية والأطلسية بأفغانستان، يحتفظ بصلاحياته جميع، بقصد حماية القوات التى ستتمركز فى العاصمة الأفغانية لتأمين السفارة الأمريكية ومطار كابول، أعلن الرئيس بايدن، مطلع الشهر الجارى، عزمه الإبقاء على بعض القوات الأمريكية فى أفغانستان، مع تهيئة بنية عسكرية ولوجيستية ملائمة بدول الجوار الأفغانى الحليفة لواشنطن، تكفل تزويدها، وقوات الحكومة الأفغانية، بالدعم والإسناد اللازمين، كلما استدعى الأمر.