جاءت زيارة الرئيس الأمريكى بايدن إلى الشرق الأوسط من 13ــ16 يوليو 2022 لتؤكد من جديد أن المصالح العليا الأمريكية تفرض نفسها بقوة على المواقف والآراء الحزبية، وعلى ما يروجه الحزب الديمقراطى دائما من أن الديمقراطية، والحريات العامة، وحقوق الإنسان من الأسس الرئيسية لسياسته الخارجية وعلاقاته مع الدول. فقد بدأ بايدن مع توليه السلطة فى يناير 2021 التأكيد على هذه السياسة واتخذ موقفا غير ودى من أهم دولتين عربيتين وهما مصر والسعودية. ولكن الأوضاع الإقليمية والدولية تغيرت كثيرا على مدى نحو عام ونصف العام من تولى بايدن السلطة ودفعته إلى التراجع ولكن دون التخلى عن الإحساس بالقوة فى مواجهة الآخرين رغم أنهم أصبحوا أقوياء ولهم رأى ودور يعتزون به.
• • •
جاء بايدن إلى الشرق الأوسط مدفوعا بعدة عوامل قوية منها:
أولا: الإدراك الأمريكى من واقع خريطة العلاقات والتوازنات فى منطقة الشرق الأوسط أن ثمة بديلا للدور والعلاقات الأمريكية مع دول المنطقة ممثلا فى كل من روسيا والصين، بل وأطراف صديقة فى الناتو مثل فرنسا وألمانيا. حقيقى أنهم لن يحلوا كليا محل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنهم أصبحوا شركاء لها فى النفوذ ومراكز القوى فى المنطقة وتراوحت نقاط ارتكازهم ما بين وجود مادى وعلاقات عسكرية واقتصادية وتجارية وسياسية وتكنولوجية. وتعين على واشنطن أن تتراجع عن كل ما قيل من أن الشرق الأوسط لم يعد منطقة أولى فى الاهتمام الأمريكى وإن ظل منطقة مهمة، رغم أن هذا التراجع جاء متأخرا بعض الشىء.
ثانيا: تداعيات الحرب الروسية ــ الأوكرانية، واتباع واشنطن وحلفائها سياسة التصعيد ضد روسيا عسكريا بتقديم الأسلحة والإمدادات والتمويل والمعلومات لأوكرانيا، وفرض أشد العقوبات الاقتصادية والتجارية والمالية على روسيا، والتى أصابت آثارها من ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية ونشوب أزمة اقتصادية داخل الولايات المتحدة نفسها وكل حلفائها وكل دول العالم، وأدت إلى هبوط شعبية الرئيس بايدن إلى أدنى مستوى، وأصابت الحزب الديمقراطى بقلق شديد من احتمال كبير لأن يفقد أغلبيته فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى فى كلا المجلسين الشيوخ والنواب فى نوفمبر ٢٠٢٢. وحالة التذمر الشديد والانقسام الظاهر والمستتر فى الناتو وعدم اقتناع ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا بجدوى سياسة التصعيد واستمرار الحرب فى أوكرانيا وحالة القلق الشديد فى الدول الأوروبية من عدم توفر بديل للبترول والغاز الروسى على المدى القصير والمتوسط.
ثالثا: اتخاذ الدول العربية ــ ماعدا سوريا ــ موقفا محايدا من الحرب الروسية الأوكرانية، يرفض الاعتداء على سيادة واستقلال الدول، كما يرفض فرض عقوبات اقتصادية وغيرها خارج إطار المنظمات الدولية المختصة، ويطالب بوقف القتال والدخول فى مفاوضات للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع. وهو موقف أقلق واشنطن ورأى بايدن ضرورة التشاور المباشر بشأنه مع الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية.
رابعا: قلق إسرائيل المزعوم تجاه الملف النووى الإيرانى وشنها حملات ضد إيران من ناحية ومعارضة عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووى مع إيران. ووجد بايدن أنه مواجه بمعارضة من قيادات مهمة فى الكونجرس الأمريكى ديمقراطيين وجمهوريين، ومعارضة إسرائيلية ومناصريها من المسئولين الأمريكيين إزاء رغبته فى العودة إلى الاتفاق النووى مع إيران والذى يرى أنه من الانجازات المهمة لإدارة أوباما عند توقيعه عام 2015.
خامسا: رغم كراهية بايدن لسلفه ترامب، والتنابذ بينهما، إلا أنه من الصعب على الاقتصاد الأمريكى الذى يمر بأزمة شديدة تجاهل ما سبق أن حققه ترامب من استثمارات سعودية فى الولايات المتحدة بنحو 450 مليار دولار أمريكى، هذا إلى جانب حصة السعودية فى سندات الخزانة الأمريكية ومشترياتها من الأسلحة وقطع الغيار والمعدات العسكرية الأمريكية، وأهمية المحافظة على شعرة معاوية مع ولى العهد السعودى محمد بن سلمان من أجل المصالح الأمريكية. هذا إلى جانب إعادة تنشيط العلاقات الأمريكية مع باقى دول مجلس التعاون الخليجى ومصر والأردن والعراق.
• • •
بدأ بايدن زيارته للمنطقة بإسرائيل وذلك بحكم هواه حيث يفتخر دائما بأنه وإن لم يكن يهوديا إلا أنه صهيونى، وبحكم الضرورة فلم يكن متصورا أن يبدأ زيارته بالسعودية أسوة بسلفه ترامب، وإزاء ما يلقاه من انتقادات أمريكية وتهكم لتغيير موقفه من السعودية ومن ولى العهد. وقد تمادى بايدن فى الإغداق على إسرائيل بالدعم العسكرى والسياسى والاقتصادى الأمريكى، وطمأنتها من مخاوفها المزعومة تجاه إيران والملف النووى الإيرانى بتوقيع إعلان القدس للتعاون الاستراتيجى بين الولايات المتحدة وإسرائيل للحيلولة بكل القوة المتاحة دون حصول إيران على أسلحة نووية. علما بأن إسرائيل هى التى لديها أسلحة نووية ولم توقع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية ولا تقبل أى رقابة وذلك على عكس إيران التى وقعت على الاتفاقية وتتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى جانب اتفاقها النووى مع القوى الكبرى. وكان إفراط بايدن فى دعم إسرائيل والعمل على دمجها فى المنطقة استمرارا للاتفاقات الإبراهيمية بمثابة مقدمة مستفزة لزيارته للسعودية وقمته مع دول مجلس التعاون الخليجى والدول الثلاث (مصر ــ الأردن ــ العراق).
وكانت زيارة بايدن للأراضى الفلسطينية المحتلة ولقاؤه مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لنحو ساعة من الزمن، بمثابة جبر خواطر وتقديم مساعدات مالية للمستشفيات الفلسطينية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وكأنها بديل عن تحقيق ما سبق أن وعد به من فتح القنصلية الأمريكية فى القدس الشرقية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، والاستجابة للطلب الفلسطينى برفع اسمها من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية. وأعلن بايدن تأييده لحل الدولتين ولكنه أسرع بالقول إن هذا أمل بعيد المنال فى ظل الظروف الحالية. وهو ما يؤكد أن بايدن سيقضى السنوات الأربعة من حكمه دون أن يحقق للفلسطينيين شيئا سوى الوعود المكسورة.
• • •
تلقى بايدن قبل وصوله إلى المنطقة رفضا عربيا واضحا لمطلب إقامة تحالف عسكرى أمريكى عربى إسرائيلى فى مواجهة إيران، وأكدت دول مجلس التعاون الخليجى أن إيران جارة تشترك معها فى الثقافة والدين، وطالبتها بعدم التدخل وحسن الجوار، الأمر الذى جعل بايدن يلتف حول الموضوع ويطرح فكرة التعاون العسكرى لتأمين الممرات المائية فى البحر الأحمر (باب المندب) والخليج (مضيق هرمز) ولكنها لم تحظ بتعليق من الجانب العربى حتى الآن.
ولم تتجاوب السعودية والإمارات العربية مع مطلب بايدن بزيادة إنتاجهما من البترول والغاز استنادا إلى ما سبق من تمسكهما بقرارات الأوبك والأعضاء المراقبين فيها وفى مقدمتهم روسيا، وكل ما حصل عليه بايدن من مجاملة هو إعلان السعودية أنها ستزيد إنتاجها اليومى من البترول إلى 13 مليون برميل كحد أقصى وهى تنتج حاليا نحو 12 مليون برميل يوميا، وهذه الزيادة لن يكون لها تأثير يذكر على أسعار البترول الحالية. وتجدر الإشارة إلى أن السعودية ومصر تستوردان كميات من البترول الروسى مستفيدين من انخفاض أسعاره.
وقد أكدت الدول العربية ضرورة الالتزام بحل الدولتين للقضية الفلسطينية وأن يكون التطبيع مع إسرائيل وفقا للمبادرة العربية. ولم تعتبر السعودية أن سماحها للطيران المدنى الإسرائيلى بعبور أجوائها تطبيعا مع إسرائيل وفسرته على إنه مجرد التزام منها باتفاقية الطيران المدنى الدولية، وهو ما يوفر على الطيران المدنى الإسرائيلى فى تكلفة الطيران وأسعار التذاكر ويخفض مدة الرحلات إلى جنوب شرقى آسيا وأستراليا بنحو ثلاث ساعات، كما يعده الإسرائيليون على أنه درجة من درجات التطبيع مع السعودية.
إزاء حالة الفتور فى العلاقات الأمريكية السعودية منذ تولى بايدن، فقد حرصت السعودية، على غير العادة، أن يكون استقبال الرئيس الأمريكى رسميا وفقا لمبدأ المعاملة بالمثل حيث لا يستقبل الرؤساء الأمريكيون ضيوفهم من الملوك والرؤساء فى المطار وإنما فى البيت الأبيض، لذا فقد استقبل ولى العهد السعودى الرئيس بايدن على باب قصر السلام فى جده وأوصله إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز ليستقبله. ورأس ولى العهد الجانبين السعودى والعربى فى القمة الأمريكية السعودية، وفى قمة جدة للأمن والتنمية.
وقد خصص يوما للعلاقات السعودية الأمريكية فى محاولة لإزالة الفتور إن لم يكن بين القادة، فالأهم بين المصالح، وتأكيد بايدن المشاركة الاستراتيجية والأمنية مع السعودية والحرص على توقيع العديد من الاتفاقات ومذكرات التفاهم التى تناولت جميع مجالات العلاقات بين البلدين، وهى وإن لم تأت بجديد إلا أنها تعيد تنشيط العلاقات وتؤكد على أهميتها تخوفا مما أسماه بايدن ترك فراغ تملؤه روسيا والصين وإيران.
• • •
تلقى بايدن رسالة واضحة من القادة العرب الذين التقى بهم سواء على مستوى ثنائى أو جماعى، مفادها أن ثمة مصالح استراتيجية مهمة ومستمرة فى العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تقوم على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، كما أنها لا تحول دون قيام اتصالات وعلاقات بين الدول العربية التى التقى مع قادتها والقوى الأخرى فى العالم، وإنه من المهم الأخذ فى الاعتبار مصالح الدول العربية ومواقفها السياسية من جميع القضايا الإقليمية والدولية، وإنه من المهم تعاون الولايات المتحدة لإيجاد حلول سياسية عادلة للقضية الفلسطينية والأزمات اليمنية والسورية والليبية، والأوضاع فى العراق والسودان وغيرهما من الدول العربية الأخرى.