الموسيقى هى اللغة العالمية التى تعبر كل الحدود ببساطة ولا يحار فى فهمها إنسان، أو تحتاج لقواميس لشرحها، فالكل على حد سواء يجيدها أو بمعنى أصح يجيد استقبالها والانفعال بها والاستجابة لها، فهل بالفعل يمكنها أن تؤثر فى الإنسان إلى الدرجة التى معها يمكن استخدامها لعلاج النفس والبدن؟. توقفت عند السؤال بحثا عن إجابة علمية قد تحفزنى لتلبية دعوة وصلتنى من مونتريال كندا لحضور محاضرة مهمة عن العلاج بالموسيقى، يلقيها المعالج بالموسيقى ومدير مؤسسة تشرف عليها الدولة وتساندها جمعيات خيرية للعلاة بالموسيقى: آلان لبلان.
الواقع أننى اقتربت كثيرا من هذا المجال أثناء إقامتى الطويلة فى كندا، وكان لى بالفعل أن أعاصر تجارب كثيرة للعلاج بالموسيقى خاصة حالات الأمراض النفسية والنفسجسمانية، تلك التى تنشأ عنها أعراض جسمانية نتيجة لاضطرابات النفس مثل التوتر والقلق وغيرها.
يعيش الإنسان بإيقاع يختلف من إنسان لآخر، فنبض القلب إيقاع إذا اختل تداعى له الجسد كله. للتنفس بين شهيق وزفير إيقاع، لطرفة العين إيقاع، وللكلام إيقاع بين الفم واللسان والمخ، مضغ الطعام واستقبال المعدة والأمعاء له حتى الانتهاء من عمليات الهضم المختلفة وما يليها من امتصاص للمواد الغذائية المختلفة، حتى خروج الفضلات كلها إيقاعات مختلفة متوالية تماما كالمتتالية الموسيقية تعزفها الآلات الموسيقية فى تناغم وتوافق تنساب فى آلية منسجمة منتظمة متكاملة، فإذا اختل فيها أحد تلك الإيقاعات انعكس على الإيقاع العام فأخرجه عن السياق المتسق الرتيب.
يتداعى جسم الإنسان ويمرض إذا اضطرب إيقاع أحد أجهزته، من هنا بدأت فكرة تنظيم الإيقاع الداخلى للإنسان باستخدام الموسيقى بإيقاعاتها المختلفة المعنية لكل حالة مرضية.
القدرات العلاجية للموسيقى عرفها الإنسان منذ بداية الخليقة، فقد كان الغناء والرقص جزأين من طقوس الإنسان يستخدمها لطرد الأرواح الشريرة باعتبارها سببا للأمراض وفقا لمعتقداته.
يقال إن كهنة معبد أبيدوس وهو أكبر مراكز الطب فى عصور مصر القديمة كانوا يعالجون الأمراض بالتراتيل المنغمة باعتبار أن الموسيقى تقرب المرضى من الآلهة وتحقق رضاءهم، فكانت الأوتار والإيقاعات تدق بجوار المريض بعد اختيار الإيقاع المناسب له.
الحضارات الشرقية أيضا اهتدت لأثر الموسيقى على المرض والمرضى، خاصة حضارات الهند والصين فكان كونفوشيوس العظيم يعزى الانسجام فى حياة الإنسان الاجتماعية لتعلقه بالموسيقى.
أيضا حضارات الإغريق والرومان ذكر فيها أثر الموسيقى العلاجى على تطور الأمراض وعلاجها حتى إن أبقراط ردد أن كل مريض يحتاج إلى نوع معين من الموسيقى وفقا لمرضه وحالته الصحية، لذا يجب أن يكون اختيار الموسيقى موفقا حتى لا تأتى بآثار عكسية.
يأتى ابن سينا المعالج الأشهر للجسد والروح على رأس من آمنوا بقدرات الموسيقى على علاج الأمراض النفسية، فدرس وسجل ملاحظاته العلمية على هذا الشأن وأشار إلى أهمية «الذكر» لتهدئة الحالات النفسية ومرضى الصرع.
أما فى مصر القديمة فقد أطلق الأقباط على العلاج بواسطة ترتيل المزاميز للمرضى داخل الكنيسة خاصة المصابين بالصرع «العلاج المقدس» ثم استخدموا الموسيقى للعلاج أيضا فى موالد الأقباط السنوية فيما يطق عليه العلاج الشعبى.
البداية العلمية للعلاج بالموسيقى بدأت بعد الحرب العالمية الثانية برغبة فى مساعدة ضحايا الحرب من نزلاء المستشفيات والترفيه عنهم وظل العلاج بالموسيقى يستخدم كعلاج لتهدئة المرضى والمعاونة على رفع أرواحهم المعنوية.
التطور الطبيعى فى هذا الاتجاه كان ظهور أنواع من العلاج تعتمد على الفن والموسيقى: العلاج بالفن، العلاج الابتكارى، العلاج بالموسيقى وأخيرا ظهر العلاج أو الطب البديل.
أنشأت جامعة «ميتشجان» أول منهج وضع خصيصا لتدريب معالجين موسيقيين وتأهيلهم للعمل، وانتشر الأمر ونال الكثير من مشاعر التقدير، حتى إن هناك الآن العديد من المراكز الطبية المهمة فى أمريكا وأوروبا تخصص ميزانيات لدعم مراكز بها للعلاج بالموسيقى وإجراء الأبحاث ومقارنة النتائج التى تبدو مشجعة للغاية.
الحديث عن العلاج بالموسيقى يبدو كالقراءة الجديدة فى كتاب قديم، فقد عرفه الإنسان فى صور متعددة منذ بدء الخليقة مرورا بكل العصور والحضارات فى كل أنحاء العالم، حتى ظهر أول تنظيم علمى للعلاج بالموسيقى فى اليابان عام ١٩٦٧ وكان برنامجه العلمى الأول لعلاج الأطفال المتخلفين عقليا.
مازال العلم يدهشنا بقدراته القوية فى مكافحة المرض، حماية للإنسان بكل الوسائل، ولعل تلك وسيلة أحب إلى النفس من مرارة الأدوية.. ولحديثنا بقية ــ إن شاء الله تعالى.