تهاب الولايات المتحدة من هيمنة الصين على قارة آسيا، وعلى الاقتصاد العالمى. فى ضوء ذلك، نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب نوريل روبينى، شرح فيه كيف أن مخاوف واشنطن مبالغ فيها، وأن إدراكها لذلك، بجانب توصلها إلى تفاهم مع بكين بشأن قضية تايوان، من شأنه أن يمنع التصادم بينهما... نعرض من المقال ما يلى:لا تزال الولايات المتحدة والصين تسيران على مسار تصادمى. وقد تصبح الحرب الباردة التى اندلعت حديثا بينهما ساخنة فى النهاية بسبب قضية تايوان. «فخ ثوسيديدس» ــ حيث تتجه قوة صاعدة نحو الصدام مع قوة مهيمنة قائمة ــ يلوح فى الأفق بصورة مخيفة. ولكن لا يزال ممكنا تجنب تصعيد خطير للتوترات بين الصين وأمريكا، بما فى ذلك نشوب حرب بينهما.
تتمثل الخطوة الأولى نحو منع الاصطدام فى إدراك أن بعض المخاوف السائدة مبالغ فيها. مثلا، يذكرنا قلق الولايات المتحدة بخصوص صعود الصين الاقتصادى بموقفها تجاه صعود ألمانيا واليابان قبل عقود من الزمن. فعلى أى حال، تعانى الصين من مشاكل اقتصادية كبيرة قد تؤدى إلى خفض نموها المحتمل إلى % 4ــ3 فقط سنويا، وهو معدل أدنى بكثير من معدل النمو السنوى الذى حققته على مدى العقود القليلة الماضية (10 فى المائة). إذ تعانى الصين من شيخوخة السكان وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى مستويات عالية؛ وارتفاع مستويات الديون فى كل من القطاعين العام والخاص؛ وتراجع الاستثمار الخاص بسبب الترهيب الممارس من جانب الحزب الحاكم؛ والالتزام برأسمالية الدولة التى تعيق نمو إنتاجية العامل الإجمالى.
وفى حين أن الولايات المتحدة ربما بالغت فى تقدير صعود الصين المحتمل، فإنها ربما تكون قد قللت من تقدير تفوقها فى العديد من صناعات المستقبل وتكنولوجياته: الذكاء الاصطناعى، والتعلم الآلى، وأشباه الموصلات، والحوسبة الكمومية، والروبوتات والأتمتة، ومصادر الطاقة الجديدة مثل الاندماج النووى. فقد استثمرت الصين بصورة مكثفة فى بعض هذه المجالات فى إطار برنامج «صنع فى الصين 2025»، ولكن هدفها المتمثل فى تحقيق الهيمنة فى الأمد القريب على عشر صناعات فى المستقبل يبدو الآن بعيد المنال.
كما أن المخاوف الأمريكية بخصوص هيمنة الصين على آسيا مبالغ فيها أيضا. فالصين محاطة بما يقرب من عشرين دولة، والعديد منها منافس استراتيجى لها أو «صديق معاد لها» ـ وأغلب حلفائها القلائل، مثل كوريا الشمالية، يستنزفون مواردها. وفى حين كان من المفترض أن تعمل مبادرة الحزام والطريق على تكوين صداقات جديدة وخلق تبعيات جديدة، فإنها تواجه العديد من التحديات. ومع أن الصين ترغب فى السيطرة على الجنوب العالمى و«دوله المتأرجحة» على المستوى الدولى، فإن العديد من القوى المتوسطة تقاوم هذا الطموح وتتصدى له.
لقد فرضت الولايات المتحدة عن حق بعض العقوبات لإبقاء التكنولوجيات الرئيسية بعيدة عن أيدى المؤسسة العسكرية الصينية، وإحباط سعى الصين نحو الهيمنة فى مجال الذكاء الاصطناعى. ولكن يتعين عليها أن تكون حريصة على جعل استراتيجيتها مقصورة على استراتيجية إزالة المخاطر، بدلا من الفصل، بصرف النظر عن بعض عمليات الفصل التكنولوجى الضرورية، والقيود المفروضة على الاستثمار المباشر فى الصين والولايات المتحدة. إن العقوبات التجارية التى فرضها دونالد ترامب على الصين تنطبق على مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية، وينبغى إلغاء أغلبها تدريجيا.
وفيما يتعلق بتايوان، يتعين على الولايات المتحدة والصين أن تحاولا التوصل إلى تفاهم جديد لنزع فتيل التصعيد الخطير اليوم. ويتعين على الرئيس الأمريكى، جو بايدن، أن يعيد التأكيد بوضوح على مبدأ صين واحدة وأن يعيد مواءمة التزاماته وتصريحاته العامة مع مبدأ «الغموض الاستراتيجى». ويتعين على الولايات المتحدة أن تبيع لتايوان ما تحتاجه من أسلحة للدفاع عن نفسها، ولكن ليس بالسرعة أو النطاق اللذين قد يدفعان الصين إلى غزو الجزيرة. ويتعين على أمريكا أيضا أن تقول بوضوح إنها تعارض أى تحرك تايوانى نحو الاستقلال الرسمى، ويتعين عليها أن تتجنب الزيارات رفيعة المستوى مع الزعماء التايوانيين.
ومن جانب الصين، يتعين على هذه الأخيرة أن توقف توغلاتها الجوية والبحرية بالقرب من تايوان. ويجب أن تذكر بوضوح أن إعادة التوحيد فى نهاية المطاف ستكون سلمية تماما ومتفق عليها بصورة متبادلة؛ ويتعين عليها أن تتخذ خطوات جديدة لتحسين العلاقات عبر المضيق؛ وينبغى لها نزع فتيل التوترات مع جيرانها الآخرين بشأن النزاعات الإقليمية.
ويجب أن تتبع كل من الصين وأمريكا سياسات من شأنها أن تقلل من التوترات الاقتصادية والجيوسياسية، وتعزز التعاون السليم فيما يتعلق بالقضايا العالمية مثل تغير المناخ، وتنظيم الذكاء الاصطناعى. وإذا أخفقتا فى التوصل إلى تفاهم جديد بشأن القضايا التى تشعل فتيلة مواجهتهما الحالية، فسوف تصطدمان فى النهاية. وهذا من شأنه أن يؤدى حتما إلى مواجهة عسكرية من شأنها أن تدمر الاقتصاد العالمى، بل وربما تتصاعد إلى صراع (نووى) غير تقليدى. وتتطلب المخاطر العالية امتناع كلا الجانبين عن استخدام القوة العسكرية.
النص الأصلى: