لايزال مصطلح «المعارضة السياسية»، أسيرا للتصورالنمطى السلبى، الذى استوطن مخيلة أنظمة سياسية عديدة، وطغى على الصورة الذهنية المتواترة فى وجدان طيف عريض من شعوب العالم الثالث. فلا يفتأ كثيرون يظنونها ضربا من الهرطقة، وتغريدا خارج سرب الوعى الجمعى، ومثبطة لأداء السلطة الحاكمة، ومقوضة لاستقرار البلاد، ومهددة للاصطفاف الوطنى. إذ تفتح قابليتها للاختراق من الداخل والخارج، الباب على مصراعيه لتسلل العناصر الهدامة، بقصد تقويض المؤسسات، والإضرار بلحمة النسيج المجتمعى، والعبث بثوابت الأمة.
فى المقابل، يلتمس علم النظم السياسية المقارنة، فى وجود المعارضة الوطنية، صمام أمان لتوازن الحياة السياسية، وركيزة لشرعية وحيوية أنظمة الحكم، ودعامة لسياستها الخارجية، وضمانة للسلم الأهلى. ومن هذا المنطلق، يميز علماء السياسة بين نوعين من المعارضة السياسية. أولهما، سلبى، يلجأ، تحت وطأة عجزه السياسى وإفلاسه البرامجى، إلى افتعال الحيل لتعطيل مسيرة العمل الوطنى. فيمارس المعارضة من أجل المعارضة، ويجنح للنقد الدائم والهدام، دونما إدراك لجدواه أو بغيته، وبغير رؤية ناجزة موازية أو تصور بديل قابل للتطبيق وقادر على حلحلة الأزمات. ومن ثم، لا تتورع مثل هذه المعارضة عن تبنى استراتيجيات إجهاضية، من قبيل: المكايدات السياسية مع السلطة الحاكمة، عبر إشعال التوترات لتعويق عملها وإفشالها وإحراجها أمام الرأى العام.
تطلعا منها للاستعاضة عن إخفاقها السياسى بانتزاع فرصة للمشاركة فى السلطة أو الهيمنة عليها، ربما تلجأ المعارضة السلبية للاستقواء بالخارج، والاستعانة بأطراف غير سياسية، أو الانخراط فى تحالفات عابرة للوطنية، بغية إسقاط منظومة الحكم أو حتى الدولة برمتها. وقد تجنح للانسحاب من العملية السياسية، عبر مقاطعة الانتخابات، أو التنصل من الحكومات الائتلافية ورفض المشاركة فيها. وفى البلدان المفعمة بالتنوع الإثنى المعقد، والمفتقدة للديمقراطية والتسامح وقبول الآخر، ربما تتدثر المعارضة السلبية برداء دينى طائفى، أو قومى، أو إثنى. ولعل هذا ما يفسر تكدس عديد بلدان شرق أوسطية بمعارضات ذوات صبغات إسلامية، ومسيحية، وكردية، وشيعية، وغيرها.
أما النوع الآخر من المعارضة السياسية، فيتجلى فى المعارضة الإيجابية المؤطرة دستوريا ومؤسسيا، انطلاقا من مرجعية وطنية، توخيا لتحقيق التنمية الشاملة، وإرساء دعائم الديمقراطية، متحلية بسجايا عدة أبرزها: التماسك التنظيمى، الذى يمكنها من التنافس السياسى للوصول للسلطة، ويعينها على تقويم ومراقبة الأداء الحكومى. المسئولية الوطنية، بحيث تعلو بمصلحة الوطن فوق أية اعتبارات فئوية أو حسابات حزبية ضيقة، وتسمو فوق الأسقام والمثالب التى تفت فى عضد أية معارضة ناجعة.ولما كانت ركنا ركينا من أركانه، لا تدخر المعارضة الوطنية وسعا فى تقويم أداء النظام السياسى وتصحيح مساره، سواء من خلال عمليتى الرقابة والمتابعة المتواصلتين، أو عبر صوغ البرامج وطرح المشاريع البديلة القابلة للتطبيق الناجز، وتوفير الحلول المناسبة لمختلف النوازل والملمات.
وتأسيسا على ما سلف، يغدو وجود المعارضة السياسية الإيجابية الوطنية فى الجمهورية الجديدة، التى يتفانى المصريون بدأب فى إرساء دعائمها، ضرورة ملحة، كونها تتيح بلوغ غايات حيوية، من قبيل:
ــ تعزيز قوة وتوازن النظام السياسى: حيث تعد بمثابة الجناح الآخر، أوعنصر الإتزان لمنظومة الحكم، وبدونها لا يستقيم مسارها أو تكتمل أركانها. ذلك أن بنيان النظام السياسى الديمقراطى يتأسس على دعامتين أساسيتين: أولاهما، السلطة الحاكمة، المؤيدة بظهير سياسى ذى كتلة برلمانية عريضة وأدوات إعلامية مؤثرة. وثانيتهما، المعارضة الوطنية، التى تصطف خلفها أحزاب الأقلية، بتمثيلها البرلمانى وأذرعها التوعوية. وهكذا، تتجسد الديمقراطية فى تمكين القوى المعبرة عن الأغلبية من الحكم، مع إفساح المجال لممثلى الأقلية لمباشرة حقهم الأصيل فى المعارضة الإيجابية. ومن ثم، تبقى الانتقادات الفردية الموجهة للسلطة، وإن كانت مشروعة، بمنأى عن دائرة المعارضة الإيجابية الفاعلة. إذ تتطلب الأخيرة نقدا منظما ومُمأسسا، تضطلع به وسائط سياسية معتمدة ممثلة فى الأحزاب، والحركات الاجتماعية، والروابط المجتمعية الرسمية وغير الرسمية، عبر الأقنية الشرعية، التى تعد ركنا من أركان التركيبة المؤسسية التفاعلية للنظام السياسى. وهنالك، يشكل وجود المعارضة الإيجابية دليلا على استقرار وحيوية النظام السياسى، بحيث تعكس قوة تلك المعارضة تماسك ونجاعة السلطة الحاكمة والعكس. لذا، اعتبر مفكرون غربيون من أمثال أرسطو، وأليكس توكفيل، وجود تلك المعارضة مؤشرا على حيوية وكفاءة النظام السياسى، داخليا وخارجيا. فيما يعد بدورها أحد أبرز مرتكزات القوة الشاملة للدولة.
ــ ترسيخ دعائم الديمقراطية: يعتبر علماء النظم السياسية مصطلح الديمقراطية صنوا لمفهوم المعارضة السياسية، مستشعرين خصوصية تلك العلاقة فى ملامح ثلاثة: أولها، أن وجود تلك المعارضة يمثل، بحد ذاته، دليلا قويا على سلامة الممارسة الديمقراطية، التى يشكل توفر المعارضة السياسية أحد أبرز محدداتها. ولا يتسنى للمعارضة أن تغدو وسيلة تغيير، إلا ضمن سياق نظم حكم ديمقراطية تعترف بشرعيتها وتفسح لها المجال وتحترم حقوقها، لاسيما الحق فى تسلمها السلطة حالة حصدها أغلبية تصويتية أو أكثرية نيابية. أما ثانيها، فيكمن فى أن وجود المعارضة السياسية الإيجابية يعد أمرا ملحا لتحقيق مبدأ تداول السلطة ومنع احتكارها من قبل فئة بعينها، تجعلها دُولة بين أجنحة نخبة سياسية ضيقة. فليست المعارضة سمة سرمدية لصيقة باتجاه سياسى بعينه؛ بقدر ما تعد عملية تداولية تناوبية بين النخبة الحاكمة والقوى السياسية الوطنية المنضوية تحت لواء النظام السياسى. أما ثالثها، فيتمثل فى اضطلاع المعارضة السياسية بدور سياسى تربوى وتعليمى من الطراز الأول، حيث تشكل مهام مراقبة الحكومة وتحليل سياساتها ونقدها وتقويمها، مدرسة لتأهيل النخب الاجتماعية والسياسية، سواء تلك المشاركة فى الحكم أوالموجودة خارجه. وتدريبها على تَمثُل مفهوم المصالح الوطنية، والتعاطى مع تعدد الاتجاهات الاجتماعية، والتمرس على إدارة الشأن العام.
ــ سلمية العملية السياسية: إذ تشكل المعارضة الوطنية صمام الأمان للنظام السياسى عبر ضمان مدنية وسلمية العملية السياسية. فهى تضمن تأطير وشرعنة موجات التمرد وحركات الاحتجاج، وامتصاص مشاعرالرفض السياسى والاجتماعى، والحيلولة دون انزلاق أية خلافات سياسية إلى صراع أو مواجهة، تغذى دوامة العنف المجتمعى.
وذلك من خلال عقلنة الحراك الجماهيرى وترجمة مطالبه إلى مدخلات للنظام السياسى يمكن التفاهم بشأنها لإدراك حلول وسط مرضية، عبر آلية توفيقية تعتمدها المعارضة بين المطالب الفئوية والمصالح العامة، لتتأتى لاحقا فى صورة مخرجات تلبى تطلعات غالبية الجماهير بما يكفل التسامى عن التمترس خلف الولاءات الأولية المنبثقة عن الملل والنحل والطوائف والإثنيات، والتى غالبا ما تغذى نزعات الاحتراب الأهلى، الذى يتحدى ما وصفه، ماكس فيبر، باحتكار الدولة المشروع للعنف المُقَنن.
ههنا، يبرزمفهوم «المجال العام»، الذى نظَر له، هابرماس، باعتباره الحيز التجريدى الذى يتخذ منه الأفراد والأطياف المجتمعية المتباينة منتدى للسجال والنقاش حول مختلف القضايا. وفى هذا الإطار، يحتدم الجدل حول تاثير ثورة الإعلام الجديد على الممارسة الديمقراطية. ففى حين يعتبرها تيار فكرى، يتزعمه الأكاديمى والمبرمج الأمريكى، مارك زوكربيرج، مؤسس أضخم منصة عالمية للتواصل الاجتماعى «فيس بوك»، أداة للتعبير السياسى الحر وتعزيز الديمقراطية، بمنحها زخما هائلا عبر تنويع منابر التعبير عن الرأى، وإدامة النقاش البناء، وإفساح المجال لاستيعاب مختلف الفاعلين؛ يراها رهط من المراقبين مقوضة للديمقراطية، كونها تتيح مجالات أوسع للتدليس والتضليل، حيث لا تتورع بعض الأطراف عن توظيفها لتوجيه الرأى العام و التلاعب بوجدان الجماهير.
فى المقلب الآخر، من شأن إلغاء المعارضة الإيجابية، أو تغييبها، أو تدجينها، أو محاصرتها، أن يخلف فراغا سياسيا، لا تحمد عقباه، ولا يتسنى ملؤه من قبل السلطة الحاكمة، أو حوارييها من الشخصيات والتكوينات الوظيفية الانتفاعية. فقد يسود الكبت، وتعدم الأصوات المدنية الوطنية المعارضة فرصتها للمشاركة، أو أقنيتها الشرعية للتعبير السلمى المسئول، والإدلاء بدلوها فى الشأن العام. حينئذ، ربما تجىء الطامة الكبرى، بحيث يفضى الشعورالموجع باليأس والإحباط، الناجمين عن تجرع مرارات الغبن والتهميش والإقصاء، إلى الزج بتلك المعارضة الوطنية فى براثن المَرَدَة من شياطين التكفير السياسى، ومٌشعلى الفتن، أوالمارقين من تجار الدين، وزبانية الإرهاب والتطرف العنيف.