المهام الأساسية للأستاذ الجامعى هى إنتاج معارف جديدة، ونقلها إلى طلابه، وإرشادهم وتوجيههم كى ينتجوا معارف جديدة بأنفسهم. ومن ثمَ، فإن الأدوار الأساسية لأستاذ الجامعة هى كونه باحثا، ومدرسا، وموجها. لكن هناك أدوارا أخرى متنوعة يقوم بها أساتذة الجامعات. منها دور الأستاذ الإدارى، سواء عَمِل فى المؤسسات الجامعية نفسها (رئيس قسم، أو عميد، أو رئيس جامعة، أو غيرها)، أو فى مؤسسات خارجها (الوزارات أو الهيئات أو المؤسسات العامة أو غيرها). كما يقوم أساتذة الجامعات بأدوار مهنية مرتبطة بطبيعة عملهم، فأساتذة الهندسة، مثلا، يقومون بدور استشاريين هندسيين، وأساتذة الطب قد يؤسسون مستشفيات خاصة، فيقومون بدور رجال الأعمال، وهلم جرا. علاوة على ذلك، قد يقوم أساتذة الجامعة بأدوار سياسية وأخرى أمنية، على نحو ما رأينا فى حالة الفيلسوف الألمانى مارتن هيدجر، الأستاذ بجامعة فرايبورج، الذى ساند نظام هتلر المستبد، فتعرضت سمعته ومكانته العلمية لأضرار هائلة، وعانى من نبذ المجتمع الأكاديمى له لسنوات طويلة من عمره بعد سقوط النازية. وهو المصير نفسه الذى تعرض له قلة من أساتذة الجامعات الأمريكية ممن قَبِلوا أن يشوا بزملائهم أثناء الحملة المكارثية على أصحاب الميول اليسارية فى خمسينيات القرن الماضى.
الأستاذ أبا
لكن هذه الأدوار المهنية والأكاديمية لا تغطى كل أدوار أساتذة الجامعات، لا سيما فى عالمنا العربى. فهناك أدوار أخرى متنوعة، فرضتها ظروف هذه المجتمعات، أهمها الأدوار الاجتماعية. وهذا المقال مخصص لدور اجتماعى واحد هو الأستاذ الجامعى بوصفه أبا، وهو دور اجتماعى شائع فى كثير من الجامعات، يقوم فيه الأستاذ بوظائف قريبة الصلة من تلك التى يقوم بها الأب؛ أى دعم الأبناء ورعايتهم نفسيا ومعنويا وماديا. وبالطبع فإن هذا الدور ليس من صميم المهام الأكاديمية للأستاذ، بل نتاج تصور نبيل لعمل الأستاذ يدفعه إلى التضحية بجزء كبير من وقته، وجهده، وماله لمساعدة طلابه، إدراكا منه أنه يقوم بدور مزدوج يجمع بين الأستاذ والأب. وفى الحقيقة فإن الجامعات العربية، خاصة فى المجتمعات غير الغنية، تدين لهؤلاء الأساتذة / الآباء، بالكثير.
ترجع الأهمية الحاسمة لهؤلاء الأساتذة / الآباء إلى الظروف شديدة الصعوبة التى يعيشها طلاب الجامعات، وبخاصة فى مراحل الدراسات العليا، فمعظمهم لا تتوافر له الاحتياجات الأساسية لبحثه؛ سواء فيما يتعلق بالإشراف والتوجيه العلمى من المشرفين عليه، ولا الإمكانيات المادية التى تساعده على الحصول على الكتب أو المواد التى تحتاجها بحوثه، ولا الدعم والإرشاد النفسى الضرورى جدا على مدى فترة الدراسة حتى لا يقع الطالب/ة فريسة القلق المزمن، أو اليأس، أو الانهيار، ولا الدعم الإدارى المؤسسى الذى ييسر على الطالب رحلته مع دواليب الموظفين. نتيجة لذلك يشعر الطلاب أنهم غرقى فى بحر، بلا معين أو دليل. وحين يجدون أستاذا يستمع إليهم، ويوجههم، ويذلل بعض الصعوبات لهم، ويدعمهم معنويا، ويساعدهم ماديا، فإنهم يتشبثون به، تشبث الغريق بلوحٍ خشبى، طلبا للنجاة.
الأساتذة / الآباء يشبهون واحات الصحراء؛ فهم قلة قليلة لكنهم شديدو التأثير والأهمية؛ إذ يأوى إليهم الطلاب ليجدوا فى كنفهم التفهم، والمساندة، والاحترام، والعطاء. وقد عاينتُ الأثر الذى يتركه الواحد منهم فى حياة مئات الأشخاص. وكى نُدرك قيمة هؤلاء الأساتذة/الآباء، سوف ألقى بعض الضوء على مثال واحد، هو الراحل الدكتور سليمان العطار، المترجم الشهير، وأستاذ الأدب بجامعة القاهرة.
عرفتُ دكتور العطار على مدى ربع قرن، أستاذا وزميلا فى جامعة القاهرة. خلال هذا السنوات الطوال عاينتُ كيف يمنح وقته وجهده وأفكاره وماله لطلابه. فقد كان يذهب إلى الجامعة كل يوم تقريبا، ويقضى فيها من الصباح إلى المساء، ويلتف حوله دوما طلاب الليسانس والدراسات العليا من كل الأقسام، موزعا على الجميع عطايا روحه وفكره دون استثناء. وفى حين اختار أساتذة كُثُر الحفاظ على تواصل رسمى مع طلابهم، حرص دكتور العطار على تأسيس نمط مغاير يستند تحديدا إلى أستاذية أبوية، استمدت قوتها من سمتين مميزتين:
1. أبوة دون قيود
يتطلب البحث العلمى توفر حريات أكاديمية شبه مطلقة؛ تتيح ولادة الأفكار الأكثر إبداعا؛ أى الأكثر اختلافا مع الأفكار المتداولة. وفى الحقيقة، فإن الأكاديميات العربية تعرف أشكالا شتى من تقييد الحريات الأكاديمية. لكن أخطر أسباب تقييد الحريات الأكاديمية هو شيوع تصور خاطئ للأستاذ الأب. فكثير من الطلاب «يتحرجون» من نقد المساهمات العلمية لأساتذتهم، خوفا من أن يُنظر إلى هذا النقد على أنه شكل من أشكال «العقوق» و«نكران الجميل». ويظن هؤلاء أن ترديد نظريات أساتذتهم، وآرائهم، والدوران فى فلك أفكارهم، هو تعبير عن الولاء الصادق، غير مدركين أن هذه الممارسات تصيب البحث العلمى نفسه فى مقتل. على خلاف هذه الأبوة الخانقة للبحث العلمى، كان الأستاذ العطار يتبنى تصورا للأستاذ الأب، يخلو من تقييد حرية الحق فى الاختلاف. فقد كان يحفز طلابه على الاختلاف معه، ونقد رأيه، والتعبير عن أفكارهم الخاصة، والدفاع عنها، حتى لو كانت تهدم على نحو جذرى ما يقدمه.
2. أبوة دون مقابل
يتعامل بعض الأساتذة مع أبوَتهم لطلابهم بوصفها شكلا من المقايضة؛ إذ يقايضون الحماية التى يسبغونها على طلابهم، والدعم الذى يقدمونه لهم، بولاء الطلاب لهم، والانحياز إلى صفهم. يتخذ هذا المسار منحى خطرا فى ظل أجواء الصراعات والتحزبات والشللية التى تنتشر فى المؤسسات الجامعية العربية. فى هذه الأجواء المسمومة، يجد بعض الطلاب أنفسهم منخرطين فى صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إذا أرادوا أن يحظوا بدعم أساتذتهم. هذه الأبوة العصبية شديدة الخطورة على البحث العلمى، فهى تستنزف قدرا هائلا من طاقة الباحثين، وتفسد الأجواء المهنية التى يجب أن تظللهم، وتحوِل الجامعة إلى مؤسسة قَبَلية، تتحول فيها علاقات الأساتذة والطلاب إلى علاقات شيوخ وأتباع. وحين أنظر إلى الدرس الذى يقدمه دكتور العطار، رحمه الله، فإننى أدرك أن أحد أهم مصادر قوته أنه تلافى عيوب قاتلة فى مزج الأستاذية بالأبوة؛ لأنه لم يجعل الأبوة قيدا حريريا خانقا لحرية البحث العلمى، ولا شكلا من أشكال الولاء الأعمى، والشللية المدمرة.
أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب