عالم ما قبل «كورونا».. «الحمائية» و«سلاسل العرض» الممدودة بين أمريكا والصين..! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:28 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عالم ما قبل «كورونا».. «الحمائية» و«سلاسل العرض» الممدودة بين أمريكا والصين..!

نشر فى : الأربعاء 27 مايو 2020 - 9:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 مايو 2020 - 9:20 م

عن عالم (ما قبل كورونا) أساسا نتحدث، إذْ ننتقل من مجال الفكر الاقتصادى، إلى مجال هو إلى علم الاقتصاد الدولى أقرب. ذلكم حديث ما يسمى بسلاسل العرض، أو – حسب ملفوظ آخر ــ «سلاسل الإمداد». ذلك أنه من بين أهم الاتجاهات السائدة فى مجال الاستثمار الدولى فى التكنولوجيا المتقدمة فى الآونة الراهنة، وخلال العقدين الأخيريْن على الأقل، هيمن نمط الاستثمار والتبادل المشترك بين عدة دول فى وقت واحد، أقلها ثلاثة. هذا يعكس طابع التجزئة المتزايدة لعملية الإنتاج السلعى والخدمى؛ حيث تخضع السلعة أو الخدمة الواحدة لمراحل عديدة متعاقبة، تجرى عملياتها فى مواقع متناثرة على رقعة الجغرافيا الكوكبية، وفق القاعدة الذهبية للمزايا النسبية المكتسبة حسب الصيغة السائدة غير المتكافئة لتقسيم العمل الدولى. فى هذه الصيغة، تختص بلدان معينة، نامية على الأغلب، فى الأجزاء البسيطة نسبيا، من السلسلة الإنتاجية والتكنولوجية، خلال مرحلة الإنتاج العيْنى أو الصلب، الحلقة الوسطى من السلسلة، وهى البلدان الأعلى تطورا ضمن البلدان النامية نفسها على كل حال، ومثالها الأبرز الصين، بينما تختص الدول الصناعية المتقدمة بعمليات «القلب» التكنولوجى الناعم، فى مرحلتىْ ما قبل الإنتاج وما بعد الإنتاج، الحلقتين الأولى والأخيرة من السلسلة. فماذا يبقى للبلدان «القادمة أخيرا» Late Comers إلى الحلبة التكنولوجية بقمّتها المدببة، وخاصة فى حقل المعلومات والاتصالات، تلك البلدان مثل مصر ومعها الجمع الغفير من البلدان العربية والإفريقية؟
هنا، تكشف الدراسات النظرية والأعمال التطبيقية عن اتجاهات عديدة تصب فى غير صالح عموم البلدان النامية، وخاصة البلدان العربية، بما فيها مصر، مثل تركز الاستثمارات التكنولوجية داخل حواضن السلاسل العالمية، فى قلاعها الحصينة داخل أكثر البلدان النامية قوة من حيث معدلات النمو ودرجة «التصنّع» ومستوى التقدم التكنولوجى والابتكارى، كما على صعيد التطور العلمى و«البحث والتطوير» R&D، وعلى وجه التحديد فى منطقة آسيا الشرقية، مما يهدد بقية البلدان النامية بالتهميش.
لقد بات يجرى أكثر من ثلثىْ التجارة العالمية عبر «سلاسل القيمة»، حيث يعبر الإنتاج حدود الدولة الواحدة، ويمرّ عبر عدة دول، قبل أن تدخل السلعة المتاجَر بها مرحلة التجميع النهائى ومن ثم تجهيزها للاستخدام الإنتاجى أو الاستهلاكى الأخير. وفى عام 2017 مثلا، كان توسع سلاسل القيمة أسرع من نمو الناتج المحلى الإجمالى. وقد أدت الزيادة فى حجم ومقدار التجارة المرتبطة بسلاسل القيمة العالمية إلى إحداث نمو اقتصادى ملحوظ فى العديد من دول العالم عبر العقدين الماضيين، مدفوعا بانخفاض تكلفة النقل والاتصالات وتقلص الحواجز التجارية. ولكن هذا النمو المرتفع صحبته آثار توزيعية سلبية من شأنها عدم وصول منافع التجارة للجميع، مما يدفع إلى توليد قوة مضادة للعولمة وتصاعد الحمائية وتهديد اتفاقات التجارة العالمية والإقليمية.
***
ولعل هذا يكمن، فى جانب منه، من وراء النزعة «الحمائية» للرئيس الأمريكى دونالد ترامب تجاه الصين، وفق ما تكشّف من أزمة شركة الهواتف المحمولة «هواوى». فماذا حلّ بشركة «هواوى» بفعل الإجراءات الحمائية العقابية الأمريكية، كمثال دالّ..؟
فى مايو 2018 أدرجت وزارة التجارة الأمريكية العملاق التكنولوجى الصينى «هواوى»، و70 من الشركات التابعة لها، فى القائمة السوداء، حيث منعت الشركات الأمريكية من أن تبيع لها بعض المنتجات التكنولوجية «العالية» بدون موافقة حكومية. وهذا قد سلط الضوء على عنق زجاجة مهم وهو «الشرائح الدقيقة»؛ فإن «هواوى» لا تستطيع العمل بدون الرقائق المصممة فى الولايات المتحدة.
وبالرغم من أن هواوى لديها رصيد من «المواد شبه الموصِّلة» مثل الشرائح السيليكونية، فإنها ما زالت تستورد معظم ما يلزمها منها، وقد أنفقت 11 مليار دولار فى العام 2017 على استيرادها من أمريكا بالذات. وتقوم الشركة الأمريكية كوالكوم Qualcomm، فى مدينة «سان دييجو»، بتصنيع حوالى نصف ما يوجد بالعالم من رقاقات الـ «مودم» التى تدير الاتصالات البعيدة، والمعالِجات الدقيقة.
كما أن شركة «إنتل» الأمريكية تصنّع عمليا كل الشرائح الخاصة بالخوادم المستخدمة فى مراكز البيانات العالمية، وذلك على أساس تصاميم مرخصة من قبل شركة بريطانية تسمى آ.ر.م ARM، و قد أبدت هذه الشركة الاستعداد لتقييد المبيعات إلى «هواوى»، خشية السقوط فى عواقب الحظر الأمريكى.
وفيما يخص شركتىْ كوالكوم و«آ.ر.م» ومصممى الشرائح الدقيقة الآخرين، فإنهم يعتمدون على مسابك متخصصة لتحويل السيليكون إلى معالجات صغيرةmicro processors. وأكبر تلك المسابك تملكه «شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات» TSMC» وهى واحدة من أصل ثلاث شركات فقط قادرة على تصنيع «المعالجات الصغرى» المتطورة. والشركتان الأخريان هما «إنتل» الأمريكية، وسامسونج الكورية الجنوبية. ويلاحظ أن المعالجات الدقيقة المستخدمة فى هواتف (آى فون) مصنّعة فى (شركة تايوان) المذكورة TSMC.
وتعتمد «إنتل» و«سامسونج» و(شركة تايوان...) فى المقابل على مجموعة منتقاة من مصنّعى ومورّدى المعدات المتخصصة، ومن هؤلاء شركة ASML الهولندية، وهى الوحيدة فى العالم المصنِّعة لمعدات الطباعة الحجرية، والتى تستخدم الأشعة فوق البنفسجية القصوى فى تصنيع ترانزيستورات صغيرة بالقدر الكافى لاستخدامها فى الجيل القادم من الرقائق المطورة. وقد أنفقت ASML مليارات الدولارات خلال عقود من أجل تصنيع هذه المعدات التكنولوجية، والماكينة الواحدة العاملة فى إنتاج هذا النوع من المعدات تزن 180 طنّا، وسعرها 120 مليون يورو (135 مليون دولار). و قد اشترت كل من إنتل وسامسونج و(شركة تايوان..) عددا منها. كما أن شركة SMIC ــ وهى شركة صينية لصناعة الرقائق ــ طلبت واحدة منها؛ وإذا تم منع SMIC أو أى شركة صينية أخرى من شراء مثل هذه الماكينات فإن طموح الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتى فى صناعة الرقائق المتطورة يمكن أن ينهار، حسب تقدير بعض المحللين الثقات.
وبعد كل ما سبق، هناك البرمجيات. فإن ثلاثة أرباع «التليفونات الذكية» فى العالم، بما فى ذلك «هواوى» تستخدم نظام تشغيل الموبايل «جوجل أندرويد». وبرغم أن «هواوى» احتفظت بميزة استخدام نسخة أندرويد ذات مصدر مفتوح، إلا أن «جوجل» الأمريكية تعهدت بأنها لن تقدم للشركة الصينية المميزات المخصوصة مثل «مركز التطبيقات» و«تحديثات الأمان».
***
والحق أن ما جرى أمريكيا لشركة «هواوى» يندرج فى سياق أوسع، تمثله السيطرة النسبية للولايات المتحدة على المسارين العينى والمالى لسلاسل العرض العالمية بوجه عام. وتتأكد هذه السيطرة عمليا عن طريق الوجود والنفوذ العسكرى الأمريكى المباشر وغير المباشر، فى مختلف مناطق العالم، من خلال مبيعات الأسلحة المتطورة وتكنولوجياتها المعقدة، وكذا ارتكازا إلى القواعد والنقاط العسكرية المتناثرة على أجزاء «رقعة الشطرنج» العالمية، على امتداد القارات، فى كل من أوروبا (الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية) وآسيا: شمالا شرقيا (اليابان)، وشرقيا (كوريا الجنوبية) وجنوبيا( الباكستان وأفغانستان)، وفى غرب آسيا أيضا. وفى قارتىْ إفريقيا وأمريكا اللاتينية يتكثف ويتنوع الوجود والنفوذ العسكرى والسياسى الأمريكى، بما يسمح للولايات المتحدة بسيطرة نسبية عالية على مسارات النقل البحرية اللازمة لسلاسل العرض إلى حد بعيد، برغم الوجود الاقتصادى الصينى المتزايد فى كل من القارتين.
أما عن السلسلة المالية الموازية لشبكات العرض، فإن السيطرة الأمريكية على آلية (سويفت) وأذرعها المالية تجلّت مؤخرا، على سبيل المثال، من خلال حملة الضغط على أوروبا للامتناع عن تفعيل آلية أوروبية بديلة لتحويل الأموال إلى إيران (آلية «إنستكس»)، لقاء مبيعاتها المحتملة من النفط والغاز الطبيعى إلى شركائها التجاريين. فضلا عما سبق، تميل شبكة المبادلات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بوجه عام، لصالح الولايات المتحدة، حيث تقدر نسبة صادرات الصين إلى أمريكا حوالى 4% من الناتج المحلى الإجمالى للصين، مقابل 0,5% كنسبة للصادرات الأمريكية إلى الصين من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى. ولكن من الملاحظ أن درجة التعرض المباشر للمخاطر التجارية عبر سلاسل العرض، تتسم بتماثل نسبى بين البلدين، أمريكا والصين. ذلك أن قطع السلسلة من الطرف الصينى باتجاه الولايات المتحدة، كليا أو جزئيا، يمكن أن يكلف الاقتصاد الأمريكى أعباء مرتفعة من جراء انقطاع الواردات من السلع الرخيصة المنتجة فى الصين، أو الحدّ منها، سواء كمنتجات نهائية أو كسلع وسيطة، أو كآلات ومعدات وأجهزة مختلفة. وفى المقابل، فإن قطع السلسلة من إحدى نقاطها الحرجة باتجاه الصين، يرجّح أن تكون له آثار محتملة قوية فى مجال الإمداد بالتكنولوجيا غير المجسدة، وبالمواد ذات الأهمية الخاصة لصناعة الإلكترونيات والإلكترونيات الدقيقة، على وجه الخصوص. فإلى أى مدى يمكن أن تمضى لعبة «عض الأصابع» بين الطرفيْن، وما كُنْه التأثير المحدّد على حركة الإنتاج المدوّل فى إطار النظام الاقتصادى العالمى للرأسمالية؟ وهل من بديل عالمى ممكن وموثوق..؟
هذا سؤال بالغ الأهمية قبل «كورونا» ثم بعدها على الخصوص. ونمسك عن التكهن الدقيق بما يمكن أن يجرى على وجه التحديد، فذلك أمر يحوطه قدر غير قليل من «عدم اليقين»، رغم خوض رهط كثيف من الباحثين فى هذا الحديث هذه الأيام، دون تحوّط كافٍ فيما يبدو. ولكن من المرجح أن سلاسل العرض الممدودة عل الصعيد العالمى بشكل عام، وبين أمريكا والصين بشكل خاص، سوف تثير قلقا عظيما لدى دوائر صنع القرار الاستراتيجى فى الدولتين خلال المرحلة الانتقالية الحرجة القادمة. وأكبر الظن أنه سيجرى نوع من «تهذيب السلاسل» وإعادة النظر بشكل انتقائى فى مساراتها الجغرافية وفق معطيات استراتيجية وسياسية لا تخفى. وهذا ما يمكّننا من ترجيح إدخال تغييرات وتعديلات على سلسلة العرض محليا و«إقليميا» للطرفين: أمريكا والصين، ولغيرهما، خاصة دول الاتحاد الأوروبى واليابان، لا سيما فى ضوء ما برز من «نقاط الاختناق» (القاتلة) فى سلاسل الإمداد المتعلقة بالمعدات الطبية والمواد الصيدلانية وتجهيزات الصحة العامة بشكل أساسى، خلال (أزمة كورونا) الراهنة.
ولكن إلى أى مدى يمكن أن تتحقق إعادة النظر فى السلاسل العالمية، وفى أى اتجاه، ومن أى نقاط مواقع إنتاجية وتكنولوجية..؟ هذا ما نفضل تركه لمزيد من العمل فى حقل بحوث الاقتصاد الدولى التطبيقى لفرق العمل التخصصى الدقيق فى مختلف المناطق والبلدان، بما فيها المنطقة العربية، وما حولها، وفى جمهورية مصر العربية على وجه التعيين.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات