نعترف أو لا نعترف فإن أمريكا لها تأييد واسع وكبير فى أرجاء الوطن العربى. بل لابد أن نرى بوضوح أن لأمريكا تأييدا واسع النطاق فى مصر بالذات حتى بين عشرات الملايين من الشباب المصرى الذى تجمهر فى ميادين المدن المصرية يوم 30 يونيو الماضى.
وتبدو الولايات المتحدة أكثر تدخلا فى الحياة السياسية لمصر، الآن أكثر من أى وقت مضى. ولا نكاد نصدق أن ما يبدو أنه تحركات «إسلامية» لا يعدو أن يكون تحركات أمريكية. ومن الطبيعى أن نفهم هذا على أنه قدر من التأييد الأمريكى لهذه التحركات بما فيها الإخوانية. بل أن الواقع الراهن يشهد بأن أمريكا هى الطرف الحريص على أن يبدو متدخلا فى الشأن المصرى. إنها لا تستطيع أن تفعل غير ذلك وإلا بدت أقل نفوذا مما تحب أن تبدو. إنها تريد دائما أن تبدو وأن تثبت أن لها دورا فيما يجرى.
لهذا فإن من الطبيعى أن نرى الولايات المتحدة حريصة على أن تبدو أكثر اقترابا من الشأن المصرى. وبطبيعة الحال فأن مصر تبدو حريصة على أن تعلن ابتعادها عن أمريكا فى صورة نفور طبيعى وغير طبيعى من التدخل الأمريكى فى شأنها.
<<<
ربما نبدو متناقضين حين نتوغل فى هذا الترديد عن التدخل الأمريكى والمقاومة المصرية ضده. ولكن هذا الشأن ساد فى العلاقات المصرية ــ الأمريكية فى عهود مختلفة قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها، ربما باستثناء فترة انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين اثر حرب 1967. ولعلنا لم ننس أن فترتى رئاسة أنور السادات وحسنى مبارك اتسمتا بتوغل النفوذ الأمريكى على السياسة المصرية داخلية وخارجية لسنوات طويلة. وأما فترة العام الأوحد التى سيطر فيها الإخوان على الحكم فكانت مثالا على التناقض الحاد بين استسلام الحكم الإخوانى للتدخل الأمريكى والتظاهر بمعارضته. ولا يزال هذا التناقض مستمرا وسافرا. ويبدو التناقض إزاء الإخوان وموقفهم من النفوذ الأمريكى فى أجلى صوره عندما نلاحظ أن النفوذ الأمريكى يبدى حرصا غير مفهوم على التمسك بتأييد الإخوان وفى الوقت نفسه إظهار استعداد حقيقى للتعاون مع الرئاسة المصرية الجديدة التى انتخبها الشعب المصرى بأغلبية لم يسبق لها مثيل. أغلبية لم تترك للإخوان مجالا لإظهار أى من ملامحهم فى الموقف السياسى.
ولقد اضطرت الولايات المتحدة فى الأشهر الأخيرة لأن تبحث عن بديل لإسرائيل وللإخوان فى وقت واحد. هذا ما تنطق به أحداث العراق وسوريا ونشاط المنظمات «الإسلامية» الأخرى مثل «داعش». إن العلاقات بين الإخوان وهذه المنظمات الإسلامية لم تتضح حتى الآن بشكل كاف. وبطبيعة الحال فإن العلاقات بين هذه المنظمات «الإسلامية» والولايات المتحدة تبدو خارج مصر بخلاف ما تبدو بداخلها. تبدو فى الأقطار العربية مثل العراق وسوريا والأردن وتونس بخلاف ما تبدو فى مصر، وهو ما تبدو الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على أن يبدو متماثلا وعلى مستوى واحد. إن التناقضات الحادة فى سياسات الولايات المتحدة تجاه بلدان المنطقة العربية لا تقتصر على أوضاع الحرب والسلام فى هذه البلدان، إنما تمتد لتشمل علاقات التناقض والتوحد مع أو ضد السياسات الأمريكية عامة وتجاه هذه البلدان على وجه التحديد. وعلى سبيل المثال فإن الولايات المتحدة ترتبط بعلاقات قوية ومتسعة مع دولة مثل السعودية، ولكن التناقض فى هذه العلاقات أخذ يتضح فى الآونة الأخيرة بحيث احتاج إلى معالجة لم تفلح فى القضاء على هذا التناقض بصورة نهائية حتى الآن.
كذلك فإن وجود إسرائيل فى وسط هذه التناقضات السياسية وغير السياسية لم يدخل بإسرائيل إلى مرحلة الخطر النهائى، ولكن إسرائيل لا تزال تحاول أن تكون لها سيطرة كاملة على المنطقة. وهذا مخطط لم تناوئه ولم تتحداه المنظمات الإسلامية، لا الإخوان ولا غيرها. ونلاحظ هنا أن الولايات المتحدة لم تعد تنظر الى إسرائيل باعتبارها قاعدة قوية لها، ولكنها فى الوقت نفسه لا تشيح بنظرها عن إسرائيل هذه فى اختلافهما معا ومهما كان الحد الذى تبلغه خلافاتهما. ولا تزال إسرائيل أقرب الى أمريكا من أى كيان آخر، غير أن العلاقات بينهما تسير باتجاه اتخاذ طابع عادى أكثر منه طابعا استثنائيا. وقد يكون من المبكر الحديث عن بحث إسرائيل عن بديل لأمريكا ولكن الأمر لا يعدو أن يكون فى حدود كونه أمرا مبكرا لكنه ليس مستبعدا ولا مستحيلا.
<<<
خلاصة القول هى أن مصر تبقى حجر الأساس فى المنطقة ــ أيا كان شكل وقوة العلاقات مع إسرائيل ــ فإن التغيير يبدأ منها، من مصر. وقد بدأ التغيير من مصر بالفعل. ويبقى أن نتبين فى أى اتجاه يسير هذا التغيير فى المنطقة. أن نتبين ما الذى سيأتى به التغيير من مصر إلى المنطقة.
إن بالإمكان أن نؤكد أن التغيير فى مصر لن يستبدل الرأسمالية بنظام اشتراكى ولكنه سيغير الرأسمالية. وأن مصر لن تهجر القومية العربية كنظرية وكمصير إنما ستطورها وتقويها وتجعل منها واقعا يسود المنطقة ويقوم بالدور الأكبر فى تطويرها، مهما بدت أمريكا حريصة على التدخل.
كاتب صحفى مصرى