خرجت إلى سوق العمل مبكرا، بل مبكرا جدا. كنت فى السابعة عشرة عندما بدأ اختلاطى بالغرباء. كنا مجموعة صغيرة العدد. أكثر من نصف هذا العدد كان من الجنس الآخر. والكل ينتمى إلى أديان وطوائف وألوان شتى. عشت معهم سنوات لم أعرف خلالها الغضب أو الكذب أو اليأس، ومعهم مارست أو تعرفت على قيم كالزمالة والانضباط والحب النقى. ومن هذا الموقع انتقلت إلى موقع آخر كل العاملين فيه من الرجال. عرفت فى هذا الموقع الثانى ما لم أكن أعرف. كنت ما أزال الأصغر سنا والأحدث درجة عندما تلقيت توجيها من رئيس يكبرنى بثلاثين عاما وخمس أو ست درجات وظيفية بأن أتولى مهمة إيقاع الأذى بأحد الزملاء. لم أفهم، ورحت استشير بعض الزملاء فقيل لى إنه الكيد يا صديقى. أهلا بك ومرحبا فى عالم الكبار.
شغلتنى قضية الكيد. قضيت وقتا طويلا، وإن متناثرا، أسعى وراء إجابة عن السؤال، لماذا يختار إنسان أن يتسبب فى إيذاء إنسان آخر دون فائدة تعود عليه؟ لماذا نؤذى لمجرد إيقاع الأذى؟
اختلفت الردود ولكنى تيقنت أن للكيد دوافع سيكولوجية واجتماعية وعاطفية. يقال مثلا إن شهوة الكيد عند إنسان قد تصل به إلى إلحاق الأذى بنفسه إذا تأكد أن خصمه سيصاب بأذى مضاعف. تحكى الأسطورة أن رجلا حك القمقم فخرج الجنى يسأل سؤاله الشهير «شبيك لبيك عبدك بين إيديك». وأضاف، أطلب ما تشاء بشرط واحد هو أن ما أعطيك إياه يحصل خصمك على ضعفه. فطلب الرجل من الجنى أن يفقأ له عينا. الكيد بهذا المعنى سلوك يعكس حسدا أو غيره أو تشفى أو رغبة فى النكاية والإغاظة، أو لعله يعبر عن حالة «سادية صافية»، أو حالة «شهوة مكتومة ومحتقنة»..!!
صدق أو لا تصدق أن دراسات عديدة حاولت إثبات أن الكيد مفيد للمجتمع. خلص بعضها إلى أن بعض الناس الذين يمارسون الكيد يشعرون فى قراره نفوسهم أنهم بكيدهم يخدمون العدالة، أو أنهم مبعوثون لأداء هذه المهمة النبيلة !! قيل أيضا فى معرض الدفاع عن الكيد أن السلوك الكيدى ضد الناجحين يحميهم من خطر الوقوع فى براثن الغرور، وأن الناس فى بعض المجتمعات القديمة كانوا يعتقدون أن الناجحين والعباقرة نوع من السحرة والمشعوذين، وواجب المجتمع عزلهم لاتقاء شرورهم أو ممارسة الكيد ضدهم لمنعهم من بث أفكارهم والمس باستقرار العادات والأعراف.
ويعتقد بعض علماء الاجتماع أنه يمكن للمجتمعات الاستفادة من الكيد لمقاومة انتشار الفساد. نعرف على وجه اليقين أن أجهزة فى قطاعات الأمن وفى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى تستخدم أجهزة الإعلام كالفضائيات والصحف والإذاعات والمدونات لترويج إشاعات تبدو كيدية، بينما تهدف فى الحقيقة إلى كشف الفساد ومحاصرة الفاسدين والغشاشين.
إذا كان الشعور بعدم المساواة يدفع الإنسان لممارسة الكيد فإنه بالتأكيد لا يدفع الحيوانات إلى فعل ذلك، وإن كان بعضها كذكر الغزال مثلا مستعدا لأن يفعل أى شىء إلا الكيد ليثبت لإناث القطيع أنه أحق باهتمامهن من ذكر غزال آخر أصغر سنا وأكثر رشاقة نجح فى لفت أنظارهن.