أشكرك - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أشكرك

نشر فى : الثلاثاء 27 يوليه 2021 - 9:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 27 يوليه 2021 - 9:40 م
تقابلا بغير موعد. لم يكن بالمصعد أحد غيرهما. بدت سعيدة بفرصة وجودهما معا وبدون ثالث. تغلبت عاطفتها فاحتضنته فى غفلة قد لا يتاح لها أن تتكرر وقبلت وجنتيه وابتعدت خطوة إلى الوراء قبل أن يفتح عليهما الباب. أعلم أنها انتظرت سنوات من أجل لحظة مناسبة. جاءت لحظات كثيرة افتقدت كل منها لتكتمل شرطا أو ظرفا. ها هى لحظة أخرى، فكرت بسرعة فتذكرت الحكمة القائلة، إذا جاءت لحظة بدت لك غير كاملة، اجعليها كاملة. جاءتها اللحظة عندما لمحته فى بهو الفندق يقترب ليستخدم المصعد، استعجلت الخطى لتلحق بالمصعد وبالفعل دخلت قبل أن ينغلق بابه عليهما. تحققت اللحظة الكاملة التى طال انتظارها.
•••
استاذى، اعتذر عن مخاطبتك بهذا اللقب بخاصة بعد أن عرفت منك أنك تفضل لو أن تلاميذك خاطبوك باسمك مباشرة، وقد صاروا بحكم الزمن وتطور العلاقة وزحمة الظروف أصدقاء لك. تعرف، وأنت دائما من أوائل العارفين، مدى الصعوبة التى واجهتنا فى بداية الانتقال من مرتبة التلميذ إلى رتبة الصديق. خفنا أن نتجاوز الحدود، فتجاوز الحدود من طبائع البشر وبوجه خاص أصحاب الطموح منهم. اعترف بأنك سهلت الأمر علينا عندما جعلت الصداقة بيننا رحلة ممتعة. أسأل نفسى كثيرا إن كنت اقتحمت فى حياتى من عوالم الأسرار والمغامرات والسلطة ما اقتحمت لو لم تكن هناك فى الانتظار ناصحا ومرشدا وشغوفا، أو لم تكن يدك فى متناول يدى حتى وأنت تجوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية أو وأنت مشتبك فى قضية أو أخرى. الآن، من حقك أن تعرف أى ريح ألقت بى فى عشك الهادئ.
***
نعم، رميت بنفسى فى حضنه ومؤكدة على ما فعلت ومسجلة بقبلتين واحدة على هذا الخد والأخرى على الخد الآخر، وما أن توقف المصعد حتى وجدت نفسى أهرع فى اتجاه بيتك أحمل معى فرحة لا تقاس وسعادة لا توصف. لم أنظر خلفى لأعرف ماذا جرى للرجل الذى احتضنت وقبلت. كل همى تركز على ضرورة أن ترانى وأنا فوق هذه القمة من الفرح والسعادة. لم يكن فى خطة مشاويرى هذا الصباح مفاجأتك بزيارة لم يسبقها تمهيد أو إبلاغ. لم ينبهنى إلى شذوذ ما فعلت ضمير أو أخلاق أو قواعد لياقة. توقفت كعادتى عند بائعة الزهور لأسألها أى الزهور يفضلها «أستاذى» فى هذا الموسم «وبأى مزاج وَجَدْتِهِ هذا الصباح وأنت تزفين له نصيبه اليومى من زهورك». يبدو أن سعادتى كانت تقطر فتبلل خدى وشَفَتَىَّ إذ تأملتنى البائعة لثوان ثم قالت: «من حسن حظك، سوف تحملين له زهورا يحبها لم تكن وصلت عندما انتهيت من إعداد باقته لهذا الصباح. أستطيع أن أرى ابتسامته المعبرة بامتياز وهو يستقبلك وعيناه تتنقلان بالإعجاب بين زهور افتقدها وهذا الوجه الجميل».
•••
صديقى، أنت السبب وراء ما فعلت فى مصعد الفندق. لا تغضب من فضلك. أنا غير آسفة فأنا لم أتجاوز. على العكس عاد ما فعلت على جميع الأطراف بالبهجة والسرور. أنا مثلا لم أشعر يوما بالراحة كما شعرت بعد أن احتضنت الرجل هذا الصباح وقبلته. أزاح الحضن عن كاهلى عبئا حملته لسنوات، لعلها تزيد على عشرين عاما. حتى الرجل لمحته بين القبلة والأخرى منبهرا. لم أطل النظر ولكنى واثقة أنه لم يكن ثمة عداء فى نظرته، رأيته متسائلا ومرتبكا كطفل صغير لم يتعود أن يقبله على خديه الكبار من الضيوف والجيران. وفى اللحظة قبل الأخيرة، أى قبل انفتاح الباب، رأيت فى عينيه بريقا. عرفت للتو أنه عرفنى. خرجت وأنا واثقة أن مهمتى اكتملت وكانت ناجحة بالمقاييس التى وضعتها والتزمتها. أدعوك يا أستاذى لتفخر بتلميذتك التى أخذت بنصيحتك، أنا طبعا تأخرت فى الاستجابة لها وتنفيذها ولكن يبدو أننى وعدد غفير من تلاميذك انتبهنا بعد عقود إلى عمق ما أشرت علينا به وحكمته وروعة عائده وغزارة فوائده.
•••
تذكر رحلتنا الجامعية فى إيطاليا وكنت أنت الأستاذ المشرف على الرحلة. قضينا يوما رائعا فى العاصمة روما ومنها انتقلنا بالحافلة إلى نابولى فى الجنوب. كنا فى البرنامج عاقدين العزم على قضاء يوم بليلة فى جزيرة كابرى وفى الخطة نمر عند العودة إلى نابولى بجزيرة ايسكيا، وهى أكبر من كابرى ولكن أقل جمالا. أثناء الليل وبعد نهار قضيناه صعودا وهبوطا فى مسالك كابرى الجبلية وأسواقها، وحين أتى المساء، رحنا نجوب الحانات لا أكثر، هناك قابلنا وفدا نسائيا مصريا اتضح أنه مدعو للمشاركة فى مهرجان لعرض الأزياء، وهو ما فسر لنا الوجود المكثف لعارضات جميلات، كل منهن مزهوة بقوامها الرشيق. تناولنا العشاء معهن وكانت أغلب مكوناته من حصاد البحر. نحو العاشرة وقد حل بنا التعب قررن وقررنا معهن العودة إلى فنادقنا للنوم استعدادا ليوم آخر طويل يبدأ مبكرا لزيارة جزيرة اسكيا بالقوارب ومنها إلى نابولى ثم شمالا بطريق الساحل وبالحافلات إلى روما مرورا بمنتجع سورينتو الأنيق حيث من المقرر أن نتناول وجبة الغذاء فى أحد مطاعمه الرائعة المنحوتة فى صدر الجبل.
استيقظت فى منتصف الليل على آلام شديدة فى البطن وحرارة مرتفعة وصداع رهيب. أكاد أكون زحفت زحفا من غرفتى وكانت فى الطابق الأرضى حتى وصلت إلى مكتب الاستقبال فى بهو الفندق. تحدثت مع موظف الاستقبال بلغة فرضتها الظروف التى أحاطت بنا ويبدو أن صوتى وأنا أشكو كان مسموعا لبعض النزلاء الموجودين فى البهو فى هذه الساعة المتأخرة. كنت أنت بينهم ومعك شاب زميل فى الرحلة وهو من كلية أخرى غير كليتنا. طلبتما نقلى فورا إلى مستشفى فى نابولى عملا بنصيحة سيدة إيطالية ترافق وفد عارضات الأزياء. يبدو، كما فهمت منك عندما التحقت بكم فى مدينة فلورنسا بعد أيام، أننى فقدت الوعى، وأنك أشرفت بنفسك على ترتيبات نقلى إلى المستشفى التخصصى فى نابولى وهناك قمت أنت بتكليف الشاب الذى كان فى صحبتك بالبهو بمرافقتى والبقاء إلى جانبى إلى أن نلتقى معا بالرحلة أينما تكون.
كل ما عرفته عن رحلتى العلاجية أن الشاب الذى كلف بمرافقتى والإشراف على علاجى والإنفاق والرعاية كان يبعث لك بتقارير بين الواحد والآخر ما لا يزيد عن ساعة زمان. عرفت أيضا أنكما اتفقتما على أن يستمر التشاور بينكما ومعى إذا سمحت حالتى حول الحاجة إلى إبلاغ زوجى المقيم ذاك الأسبوع فى مدينة ادنبره، العاصمة الثقافية لاسكتلنده، فى مهمة تتعلق بعمله. ثلاثة أيام بلياليها قضاها الشاب المرافق لى بأمرك على كرسى فى غرفة نومى بالمستشفى. كانت أوامره للممرضات أن يتولى بنفسه إطعامى ليسجل فى تقاريره لك ما أكلت وشربت والأدوية التى تعاطيتها. أشرف بنفسه أيضا على تغيير ثيابى أو إزالة ما يكون قد التصق بها أو بجسدى من قطرات أدوية سائلة أو مشروبات ومن فتات خبز ومأكولات. أفقت من حالتى فى الليلة الثالثة. فوجئت به مقيما بجانب فراشى. السواد يحيط بعينيه، ملابسه فى حالة رثة، شعره هائج فى غير نظام. ما إن تأكد من التحسن الذى طرأ على حالتى حتى استدعى الممرضة المسئولة عنى واستأذن منا أن يغيب مدة ساعة ويعود.
عاد بعد ساعة وكنت فى منتصف حمامى، على الناشف طبعا، مرتدية قلة قليلة من ملابس لا تستر ولا تحمى. فوجئ بما يفعلون فى أمر صار من اختصاصه. وبلباقة أشاح بوجهه وطلب إبلاغه الانتهاء من الحمام ليتحدث معى فى أمر هام، كل هذا ووجهه متوجه إلى ركن بعيد فى الغرف. ضحكت بصوت عال وسألته «يا رجل سألت فعلمت بما قمت بعمله وأنا غائبة عن الوعى. والآن تستحى منى لأننى استحم فى وجودك».
•••
صديقى أو أستاذى، كنت تقول لنا «لا ترحلوا من مكان أو زمان قبل أن تتوجهوا بالشكر لكل من أدى لكم خدمة أو صنع جميلا وفضلا لا ينسى، أو ساهم فى تجميلكم وتحسين صوركم، أو أزال عنكم غمة وخفف من بلواكم، أو رفع من شأنكم وحسن أداءكم وزاد فى قيمتكم، أو من ائتمنتموه على سر أو عرض أو حب فخاف عليه وأولاه الحماية والحرص. من نسى منكم على مر السنين الاعتراف بجميل غيره وفضله عليه يتعين عليه أداء واجب الشكر لمن يستحق مهما طال الزمن، ولن يعدم حيلة».
•••
تتفق معى يا صديقى أننى لم أعدم حيلة. جاءتنى الفرصة غير مكتملة فجعلتها مكتملة. أعدك أننى سوف أواصل البحث فى أعماق ذاكرتى عن أفضال أثرت فى حياتى ومشاعر وعلامات حب ساهمت فى إعادة تشكيل هياكلى ومفاهيمى العاطفية أو أدخلت سعادة إلى قلبى، ثم أسعى لأجد أصحابها وفرصا تسمح لى برد جمائلهم. أعدك أيضا بأننى لن أرحل من مكان أو زمان إلا بعد أن أكون أديت واجب الشكر لكل من استحقه.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي