زميلتى التى لم تتوقف يوما عن الإشادة بالنظام الجديد، وجدتها، عند عودتى من رحلة خارجية، غاضبة. سمعتها تشكو من تقصير أو إهمال حكومى تسبب فى انقطاع الكهرباء وتوقف أجهزة التكييف. كانت نتيجة هذا التوقف أن ظهر على أطفالها عرض أو أكثر من أعراض أمراض الحساسية، وانخفضت شهيتهم للأكل واللعب. أما الكبار فقد تعددت الاشتباكات بينهم وارتفعت درجات التوتر والغضب متسببة فى نتائج كاد بعضها أن يكون وخيما.
•••
دفعتنى الشكوى من الزميلة المعروفة عادة بالهدوء وبرودة الانفعال، وشكاوى أخرى عديدة، إلى التأمل فى سر هذا التأثير الغامر لأجهزة تكييف الهواء فى حياتنا وحياة غيرنا من الأمم وفى تطور الحرف والمهن وفى الإبداع عموما. نحن بالتأكيد نعيش فى عصر «ثورة التكييف» بعد أن عشنا قرونا فى العصر الحجرى وقرونا أخرى فى العصر البرونزى وعصر الثورة الزراعية وعصور التنوير والثورة الصناعية والثورة المعلوماتية. عصور غيرت وجه البشرية والكوكب معا. وأزعم أن من بين هذه العصور والثورات تقف فى مكان بارز ثورة التكييف. صحيح القول بأن كثيرا من البشر لم تصل إليهم مباشرة ثمار هذه الثورة ولكنه صحيح أيضا أنه فى كل الثورات لم تصل ثمارها سريعا أو بوفرة إلى غالبية البشر. نعرف أن فى هذا العالم يعيش فقراء، وربما هم الأغلبية، لم يدخل التكييف حياتهم. القول صحيح بقدر ما هو صحيح أيضا القول بأن فى هذا العالم تعيش حتى يومنا هذا قبائل فى الأمازون وجزر تحيط بأستراليا وغينيا الشرقية لم تصل إليهم بعد ثمار أى عصر جاء بعد العصر الحجرى.
•••
تغيرنا كثيرا فى عصر التكييف، وكلنا شهود على حجم التغير وأنواعه. لا شك فى أنه بسبب جهاز التكييف تغيرت «العمارة» فى العديد من أحياء القاهرة. هناك فى هليوبوليس شيدت المبانى ليحصل سكانها على أقصى استمتاع بالظلال والنسيم. شبابيك ضيقة تحجب الشمس عن الغرف بمشربيات خشبية، وأسقف عالية تحتفظ برطوبة المسكن. مرت عقود قبل أن تشيد بنايات تحيط بطوابقها شرفات واسعة. هليوبوليس الآن، مثل غيرها من أحياء القاهرة زحفت عليها العمارات الزجاجية حيث الشبابيك مثبتة أبديا، لا تسمح بنسمة هواء تنفلت فى أى اتجاه. الهواء داخل البناية مختزن لا يتبدل أو يتغير إلا من خلال أجهزة تكييف تعيد تدويره.
بسبب ثورة التكييف تغيرت هندسة المساكن من نموذج القباب والأسقف العالية والشبابيك الخشبية إلى هندسة العلب الزجاجية المحكمة الإغلاق. انتهى زمن القاهرة المشرعة النوافذ. بنايات على الصفين بشبابيك مفتوحة وبلكونات فسيحة يلتئم فيها شمل العائلة ساعات العصرية يتنسمون الهواء القادم من «البحرى». وبسببها تغيرت هندسة الأسواق التجارية. نشأنا على أسواق عربية مشيدة على نمط يراعى حرارة الجو، فكانت شوارعها ضيقة، مغطاة بستائر غليظة تمنع تسرب شعاع الشمس الحارقة. كانت الستائر تفرض «عتمة» محببة إلى زوار المكان والتجار الذين كانوا يتبادلون مهمة رش بلاط السوق بالمياه. أسواق شيدت فى أعماق التاريخ العربى وظلت شامخة تتحدى جميع الثورات والعصور التى مرت عليها. سوق الحميدية فى دمشق والغورية وخان الخليلى والصاغة فى القاهرة وزنقة الستات فى المنشية بالإسكندرية وسوق المدينة فى تونس وأسواق القصبة الجزائرية وأسواق الرباط والدار البيضاء وفاس ومراكش، كلها دون استثناء، تدفع اليوم فاتورة عصر التكييف.
ففى عصر ثورة التكييف تشجع المهندسون المعماريون وراحوا يبنون أسواقا تجارية من طوابق متعددة، جدرانها صماء من حجر أو زجاج، لا تخترقها الشمس، ولا يتسرب منها الهواء. لا يجلس أصحاب المحلات على أبوابها مرحبين بالمتبضعين وعارضين عليهم أكوابا من الماء المثلج وعصائر الأعناب والفواكه والقهوة العربية. تجار هذه الأسواق العصرية المكيفة مختلفون عن تجار البازارات العتيقة. يعرفون أن نسبة كبيرة من زائرى هذه المولات تأتى للاستمتاع بالتكييف، وما على التجار إلا مسايرة متنزهين فى الغالب لا يشترون وبذل جهد أكبر ليصبحوا من المشترين. أما خارج الأسواق المعلبة فقد اختلف الرأى حول الأسلوب الأمثل لاسترداد المستهلك الذى هرب من محلات الأرصفة إلى محلات المولات، جربوا «تكييف» أرصفة الشوارع التجارية حتى يقبل الناس على متعة التبضع فى الطريق العام، كما تعودوا قبل عصر التكييف، وفشلت التجربة.
•••
نفتقد، أبناء وبنات جيلى وأنا، ضحية أخرى من ضحايا ثورة التكييف وهى دور السينما الصيفية وسينما السيارات. نفتقد منظر مبانى القاهرة وشبابيكها المفتوحة على مصاريعها تستجدى نسمة هواء. نفتقد المارة كبارا وصغارا نساء ورجالا وقد تحرروا من ملابس ثقيلة وداكنة. نفتقد العيش فى بيوت صحونها واسعة وشبابيكها عالية وغرفها فسيحة. بعض هذه المنازل انقذه عقل مستثمر واعٍ ويد مبدع فتحول إلى مطاعم تنتشر الآن فى بيروت وتونس، وكانت دمشق، إلى وقت قريب، تزهو بها وتفخر.
نفتقد أشياء كثيرة. وأشياء أخرى كثيرة أيضا لا أفتقدها رغم الرومانسية التى أحاطت ببعضها. لا أفتقد مثلا حفلات الأعياد الوطنية فى الهند عندما كان الضيوف مدعويين إلى التجمع فى دوائر حول مراوح هائلة الحجم تدور بأقصى سرعاتها فيخرج الهواء منها ساخنا ليمر بلوح من الثلج فيصل إلينا باردا.
نفتقد أو لا نفتقد، المهم أننا نعرف أنه لا عودة إلى الوراء. لا عودة إلا ما وراء عصر التكييف، أو إلى ما وراء عصر التنوير، أو إلى ما وراء عصر الصناعة. لا عودة، ليس فقط لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء كما يقولون، ولكن أيضا لأن الإنسان، يصبح بعد قليل جزءا من عصر يعيش فيه ولن يقبل راضيا ومختارا العودة للعيش فى عصر مضى، وبخاصة إذا كان عصرا يفتقر إلى التكييف.