قيام وسقوط «القوة العظمى الوحيدة»..! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 3:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قيام وسقوط «القوة العظمى الوحيدة»..!

نشر فى : الجمعة 27 أغسطس 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : الجمعة 27 أغسطس 2021 - 7:55 م
كنا نقول ــ قبل عام 2000 ــ إن عملية صنع القرار القومى الأمريكى تمرّ بسلسلة «ذهبية» من الخطوات المتدرجة تباعا، حيث تبدأ من الدراسة البحثية للقضية محل الاهتمام فى مراكز التفكير Think Tanks التى (تقتل) موضوع القضية بحثا، كما يقولون، وتنتهى إلى تقديم خلاصات بحثها ودراستها إلى أجهزة صنع القرار. تتلقف أجهزة صنع القرار نتائج البحث، وهى، مثل «البنتاجون» فى المجال العسكرى، تستقى خلاصات الدراسات وتبنى على أساسها استراتيجيات وتكتيكات ومن ثم خطط العمل التنفيذية Action Plan. تأتى الخطوة الثالثة حين تقوم الأجهزة بوضع عدة بدائل لمواجهة المشكلة محل البحث، أمام صانع القرار فى مستواه الأعلى، مثل وزير الدفاع، أو مستشار الرئيس لشئون الأمن القومى. ينتهى الأمر بأن يقدم صانع القرار الأعلى تصورا للبديل المفضل، ولثانى أفضل بديلSecond best alternative ويضعهما أمام متخذ القرار decision taker وهو الرئيس مثلا، فى حالة موضوع الحرب وقرار القتال. ويكون على هذا الأخير أن يتّخذ القرار ثم يتحمل تبعات القرار على كاهله وحده دون شريك، بعد أن يقوم باستشارة الدائرة المقربة inner circle والتى يفترض أن تقوم باستمزاج آراء القيادات النافذة فى الكونجرس بمجلسيه، وخاصة مجلس الشيوخ.
•••
هذا ما كنا نتصوره بصدد عملية صنع القرار القومى الأمريكى، وربما كانت آخر محاولة معاصرة لاتباع هذا السبيل، هى عملية غزو العراق التى كانت معقدة حقا، واشتركت بشأنها كل الجهات التى تحدثنا عنها آنفا.
وتشاء الأقدار أن تفشل (العملية) ولا يتم اصطياد (البطة)، كما كانت تشتهى الأنفس العطشى إلى الدماء. وقد برزت من بين هذه الأنفس نجوم تلألأت فى سماء الحرب (الفاشلة من بعد) فى مقدمها رامسفيلد، ومن بعده رهط من قبيل «جورج وولفوتز» و«ريتشارد هاس» وآخرون.
وما هى إلا أيام بعد الغزو حتى تم تعيين حاكم عسكرى أمريكى للعراق المحتل ثم حاكم مدنى شهير (بول بريمر) قام بحل الجيش والشرطة، وتفرغ لقتال المقاومة الوطنية العظمى التى انفجرت فى وجوه الجميع، لتثبت أن عملية صنع القرار المعقدة، كاملة الأوصاف، قد أهملت «العامل الرئيسى» وهو «الإرادة الإنسانية» ذات البعد الوطنى ــ القومى العتيد.
وما كان من الغازى المحتل إلا أن يرتضى بتفكيك كيان الدولة العراقية، ثم إن ينصّب عليها حكاما ارتضوا فى شطر منهم بالذلّة والهوان تحت أسنّة الرماح، ثم تٌجرى (انتخابات) تتلوها (انتخابات) من قبيل «تدوير زوايا النخبة» دون ملل أو كلل.
والحقّ أن عملية الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 كانت أشد تعقيدا، من تلك التى سبقتها، عملية غزو أفغانستان عقب أحداث 11 سبتمبر مباشرة، وإسقاط حكم (طالبان).
وكان التطور السياسى اللاحق فى أفغانستان، بسيطا مثل البساطة النسبية لعملية الغزو، إذ انقسمت ساحة الجغرافيا والجيوبولتيك، فى نهاية الأمر، بين حكم (عميل) أو (شِبْه عميل) يتبعه جيش جرار، جسما بغير روح، وبين وجود سياسى وعسكرى (طالباني) يقتسم البلاد والعباد مع الأمريكيين وتوابعهم، حتى جرى ما جرى، فى نهاية الأمر على النحو الذى نعرف ويعرفون: انسحاب أمريكى فوضوى، متعجلّ، مُذِلّ..!
•••
طوال العقدين 2000 ــ 2020 إذن كانت الإمبراطورية المترنّحة تقاوم السقوط بواسطة العسكرة، وتعالج جراح الانحدار الحضارى والاقتصادى أمام الصين القائمة صعدا بعد سبات، وأمام روسيا العائدة بعد سقوط.
تلك كانت حقبة (الجرح والتعديل الخاطئ): 2000 ــ 2020، حين أخذ يحدث تآكل للقدرة الأمريكية، مع تنامى النزعة الحربية (خاصة مع غزو العراق وأفغانستان) تحت شعار دونالد رامسفيلد (حربان فى وقت واحد..! وربما أكثر من حربين..!) وتتالت إدارة بوش الابن «الحربية»، وإدارة أوباما «السلمية» غير الحازمة وغير الكفؤة اقتصاديا ثم إدارة «ترامب» الصراعية وخاصة تجاه الصين.. وأخيرا جو بايدن (النعسان) على رأى دونالد ترامب، وهو صاحب (مبادرة اللا مبادرة) بالانسحاب الفوضوى المتعجل المُذلّ من أفغانستان خلال أغسطس 2021.
هذه الحقبة (2000ــ2020) سبقتها حقبة المدّ الاقتصادى والسياسى الطاغى دون توقف اعتبارا من 1971 تقريبا (وإن شئت فقل 1970 أو 1968 أو 69).
حينذاك تمت تسوية الجرح الفيتنامى 1973، جنبا إلى جنب إطلاق حمّى التعاون الاقتصادى السلمى مع السوفييت، ثم الانعطاف ناحية الصين ما بعد ماو تسى تونج، بدءًا من خليفته المراوغ صاحب (القطط) الرأسمالية التى تصطاد الفئران المتبقية من حقبة ماو؛ إنه «(دينج هيسياو بنج) رافع الشعار (لا يهم لون القطط ما دامت تصطاد الفئران).
•••
وعلى امتداد عقدين، قامت الإمبراطورية الأمريكية المتوثبة باحتواء أوروبا الغربية والشمالية عن طريق الشركات الأمريكية عابرة الجنسيات، ومدّ الأذرع الأخطبوطية تجاه شرق آسيا وقارة أفريقيا فى حمّى الحرب الباردة مع السوفييت، ودع عنك «الفناء الخلفى» للولايات المتحدة: أمريكا الوسطى والجنوبية (أو ما تسمّى «أمريكا اللاتينية» اختصارا).
وما إن طوّعت أمريكا أوروبا الغربية، سلما ــ اقتصاديا ــ بالشركات، حتى استخدمتها مهمازا للمساعدة فى تدمير دولة السوفييت الاشتراكية، وهو ما حدث فى نهاية الأمر خلال ولاية جورباتشوف (1985 ــ 1990).
ثم إن الولايات المتحدة قامت بتصعيد التنافس الاقتصادى ــ التكنولوجى مع اليابان خلال الثمانينيات وخاصة فى عقد التسعينيات (فترة ولاية كلينتون) حتى طرحتها أرضا، وألقت بالراية السابقة على هذه الأرض؛ راية (اليابان – الدولة رقم 1) للباحث عزرا باوند: Japan As Number 1 وإضرابه. ثم إن الولايات المتحدة استعانت باليابان ومعها شرق آسيا (التابعة ــ الصاعدة) مثل كوريا الجنوبية وتايوان، لمواجهة الصين أولا، ثم اجتذابها ثانيا إلى الفلك الغربى الوثير، فى عصر «الرأسمالية غير المتجمّلة»، بالقيادة الأمريكية الجامحة، رأسمالية الليبرالية الجديدة. وإن هذه لتسرح وتمرح شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، تنشر الفوضى وتبذر بذور التوجه الصراعى فى العلاقات الدولية، حيثما ذهبت، بوجهها الكالح المشهود، ربيبة للاستغلال الطبقى فى الدواخل، وتصعيد حمّى الحروب عبر العالم، وإطلاق العنان للتغير المناخى المنذر بكارثة محدقة للكوكب الأرضى الراهن.
وكان أن دخلت الصين والتنّين فى أحضان (الحمار) بعد إسقاط «الدبّ» عام 1990، لتصبح من ثم «القوة العظمى الوحيدة» Lonely super power. ثم بزغت شمس العام 2000، وقد حققت الإمبراطورية الأمريكية المتجدّدة ذاتها، فيما بدا، على مستوى الظاهرة وليس على مستوى «الوجود الموضوعى» على كل حال. وبمجرد أن حققت ذاتها على هذا النحو «الظواهرى ــ الفينومنولوجى باللفظ الفلسفى المستعار ــ فقد استبدت بها غواية «القوة العظمى الوحيدة» تلك، لتخوض الحرب تلو الحرب، والنزاع تلو النزاع، والصراع تلو الصراع.
وقد وجهت الإمبراطورية مواردها إلى الحرب بدلا من البنية الأساسية فى الداخل، وطورت أسلحة الدمار بدلا من الطرق والمطارات، وكرست التكنولوجيا للآلات ذاتية التحكم (الأوتوماتون) و«الذكاء الاصطناعى»، بدلا من الرعاية الصحية والتحكم بالفيروسات واستكمال مشروع كلينتون الطموح (فك الشفرة الوراثية) أو (الجينوم البشري)، ولتغدو الآلة و«الآلة الذكية» من ثم بديلا كاملا أو نصف كامل للإنسان كما ينبغى له أن يكون.
تلك غواية شيطان القوة، ذلك الشيطان الذى استسلم لخَدَر الغطرسة اللذيذ، وتخلى عن «القواعد الذهبية» لعملية صنع القرار القومى الأمريكى المجرب فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن لم تكن فى التطبيق نصيرة للإنسانية المعذبة فى كل حال.
•••
وفى الهزيع الأخير من الليل سقط شيطان الغطرسة صريعا على أبواب «كابول»، ذات يوم من ذات شهر فى ذات عام هو 2021.
فماذا يخبئ الزمان للإمبراطور المتغطرس وشيطانه العابث؛ وماذا يخبئ للبشرية، وخاصة لنا نحن (الغلابا) فى «العالم الثالث القديم»..؟!
محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات