ظهرت فى الأيام الأخيرة ما بدت وكأنها أزمات داخل ائتلاف حكومة بنيامين نتنياهو، أبرزها استمرار عربدة زعيم حزب «عوتسما يهوديت» (قوّة يهودية)، إيتمار بن غفير، الذى تمرّد على قرارات الائتلاف، فى سبيل الضغط للقبول بضمه إلى الطاقم المقلص لإدارة الحرب؛ وكان من أبرز ما فعله رفضه تمرير قانون تسعى له كتلتا الحريديم؛ وبموازاة ذلك، تهديد بن غفير ومعه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بمغادرة الحكومة فى حال تم إبرام اتفاق يؤدى إلى وقف الحرب، وانسحاب جيش الاحتلال كليًا من قطاع غزة، رغم أن هذا ما يرفضه أيضًا، نتنياهو شخصيًا. والأمر الآخر، ظهور تقارير تتحدث عن أزمة بين وزير الدفاع يوآف جالانت، ونتنياهو، انعكست بصدور بيان حاد من مكتب نتنياهو، وأيضًا أحاديث عن حوار مع كتلة المعارضة «اليمين الرسمى»، بزعامة جدعون ساعر، لضمها إلى الائتلاف.
وكنا قد عرضنا أكثر من مرّة نهج ايتمار بن غفير الضاغط على ائتلافه، وهو يفتعل أزمات كى يحقق مكاسب متعددة، وقد نجح فى العديد من المحطات، لكن فى الشهرين الأخيرين للدورة الصيفية، أدى نهجه وتمرّده على الائتلاف، إلى ضرر فيما تسعى له كتلتا الحريديم، على صُعد مختلفة، منها سن قانون يمنح مكانة أقوى للمحاكم الدينية اليهودية، وتعيين حاخامات المدن والبلدات وغيرها.
وهذا خلق توترًا حقيقيًا، انعكس فى رد قادة الحريديم على بن غفير، قبل نحو أسبوعين، حينما اقتحم بن غفير، مرّة أخرى، باحات المسجد الأقصى المبارك، إذ كانت بيانات الإدانة من قادة الحريديم الذين يلتزمون بالحظر التوراتى لدخول منطقة الحرم القدسى الشريف، أكثر مما شهدناه سابقًا، وصلت إلى حد التهديد باستمرار الجلوس مع بن غفير فى الحكومة نفسها، وهو تهديد أكثر إعلاميا من أن يتم تطبيقه بسبب قضية كهذه، لأنه ليس للحريديم خيار سلطوى آخر. لكن، وعلى غير عادة، انضم لبيانات الإدانة هذه المرّة، أبرز 5 حاخامات للحريديم فى القدس، من الغربيين الأشكناز، والشرقيين السفاراديم، فى شريط مصور مترجم للعربية، يدينون فيه اقتحام بن غفير للمسجد الأقصى رغم الحظر التوراتى الجازم، وأعلن يومها أن الهدف هو تعميمه على العالم العربى كله.
الخلافات مع جالانت
بطبيعة الحال، فإنه فى النظر من خارج الحلبة الإسرائيلية، لا يمكن رؤية أى خلاف جوهرى بين كل شركاء الحكومة الإسرائيلية، ومعهم الغالبية الساحقة من المعارضة الصهيونية البرلمانية، وأن أى خلاف يدور بين أقطاب الحكومة، ليس على الأهداف الجوهرية للحرب، بل على الأداء، وما يمكن تحقيقه فى هذه المرحلة.
لكن فى تفاصيل الحلبة الإسرائيلية الداخلية، هناك خلاف واضح بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع لديه، يوآف جالانت، إذ إن نتنياهو مستمر فى النهج الذى يميز حكومته الحالية بأجندتها غير المسبوقة، فى ضرب وتقليص مكانة كل الأجهزة المهنية الأساسية التى تدير شئون الحكم، من أصغر دائرة، حتى الدوائر التى تُعد مرتكزا للحكم، إن كان الجهاز المهنى فى وزارتى العدل والمالية، أو جهاز القضاء ككل، وبلغت الذروة فى العامين الأخيرين، حتى السعى لتقويض ما كان يُعد «البقرة المقدسة»: الجيش والأجهزة الاستخباراتية.
وأيضًا هنا نؤكد مجددًا، منعًا لأى تأويل، أن الخلاف بين قيادة الجيش ورئيس الحكومة وغالبية الوزراء، لا يدور حول أهداف الحرب، وإنما حول أشكال الأداء، ومطالبة الجيش بما هو أكثر، واتهامه بالتقصير، وهذا بات يحدث بوتيرة أكثر من ذى قبل، إضافة إلى ما نراه من صدام فى الصلاحيات بين الجيش وقوات ما تسمى «حرس الحدود»، التابعة لوزارة الشرطة (الأمن القومى)، فى جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة.
وإذا ما نظرنا إلى نهج نتنياهو، منذ أن ظهر لأول مرّة على رأس جهاز الحكم، سنرى أنه سعى طيلة الوقت للإطاحة بكل من يخالفه، أو يبدو وكأنه ندّ لنتنياهو فى الحزب والحكومة، أو تكون له طموح مستقبلية للمنافسة على رئاسة الحزب؛ وقائمة الأسماء التى سقطت من قيادة الليكود والحكومة، على مر السنين، باتت طويلة جدًا، ومن بينها أسماء لا تزال من حيث عمرها، قادرة على العمل السياسى.
وعلى أساس هذا، فإن نتنياهو ينظر إلى جالانت كشخص ند له، ويحاول أن يتجاوز مكانة نتنياهو، بصفته «المقرر» فى الحكومة. وفى الأشهر القليلة الأولى بعد تشكيل الحكومة فى نهاية عام 2022، أعلن نتنياهو نيته إقالة جالانت من منصبه، لكن كان هناك رد فعل شعبى غاضب، وامتد أيضا إلى داخل الليكود، فتراجع نتنياهو، لكن فى الأشهر العشرة الأخيرة تم تسريب معلومات لوسائل الإعلام، حول نية نتنياهو إقالة جالانت، كان آخرها فى شهر أغسطس الجارى.
ليس واضحًا إذا ما كان هذا الصدام سيتجدد فى الفترة المقبلة أو حتى اليوم الأخير لهذه الحكومة، لكن، ومرة أخرى استنادًا للتجارب السياسية مع نهج نتنياهو، إذا ما قرر جالانت الاستمرار فى الحياة السياسية، فى الانتخابات المقبلة، سيجد نفسه واقفًا أمام حواجز نتنياهو للتقدم فى قائمة الليكود، بعد أن كان جالانت قد حلّ فى الانتخابات الأخيرة فى المركز الرابع فى حزبه، وكان هو إحدى أدوات نتنياهو لدفع شخصيات بارزة فى الليكود عن صدارة قائمة الحزب، إلى مقاعد خلفية، مثل يسرائيل كاتس ونير بركات ويولى إدلشتاين، فقط لأنهم فكّروا فى الترشح لرئاسة الليكود.
ولهذا، فإن احتمال أن يسعى جالانت للبحث عن قائمة انتخابية قوية أخرى تؤويه كبير جدا، وقد يكون هذا على الأغلب فى مكانين: إما قائمة «المعسكر الرسمى» التى يقودها بينى جانتس، وهذا سيزيد من عدد الجنرالات فيها، أو أن يكون جالانت هو الشخصية العسكرية فى قائمة لليمين الاستيطانى والاستيطانى الدينى، يقال إنه يجرى فحص إمكانياتها، برئاسة من كان رئيسًا للحكومة فترةً قصيرة، نفتالى بينيت.
احتمالات ضم ساعر
بالتوازى مع ظهور أنباء فى وسائل الإعلام عن احتمال أن يقيل نتنياهو جالانت من منصبه، وأيضا مع ظهور تهديدات لزعيم حزب «قوة يهودية» إيتمار بن غفير، بالانسحاب من الحكومة، كل مرّة لسبب ما، ظهرت أنباء عن حوارات تجرى مع جدعون ساعر، الذى بات يترأس كتلة «اليمين الرسمى»، التى انشقت عن كتلة «المعسكر الرسمى» التحالفية، ولها 4 مقاعد برلمانية. وهذا أمر ظهر أكثر من مرة فى الأشهر الأخيرة.
ونشير إلى أنه من ناحية سياسية، فإن ساعر وشركاءه فى الكتلة هم فى عمق اليمين الاستيطانى المتطرف، ومن دعاة استمرار الحرب وتصعيدها بشكل دائم.
ومنذ انشقاقه عن تحالفه مع بينى جانتس، لم يتمكن ساعر من اجتياز نسبة الحسم فى استطلاعات الرأى العام الإسرائيلى، سوى لأسبوعين على الأكثر، وكل استطلاعات الرأى تتنبأ بأنه بقدر ملحوظ، تحت نسبة الحسم التى تضمن تمثيله البرلمانى فى الانتخابات المقبلة.
وليس واضحًا ما إذا سيجد ساعر جهة سياسية تقبل به أو تقبل بشرط مفترض أن يطرحه، وهو ضمان مقاعده الأربعة الحالية فى أماكن مضمونة، فى أى قائمة ينضم إليها، سواء إن كانت قائمة حاليًا أو أنها ستتشكل عشية الانتخابات. والاستفادة الأساسية من ضم ساعر إلى قائمة انتخابية، هى ميزانية الانتخابات التى يستحقها حزبه، فالجانب المالى أمر من أساسيات خوض الحملة الانتخابية.
وتمشيًا مع ما أسلفنا قوله هنا، فإنه على الرغم من ظهور أزمات داخل الائتلاف الحاكم، وفى أحيان عديدة يكون الخلاف جديًا، حينما يكون أحد الأطراف يسعى لتحقيق مكاسب حزبية، فإنه على أساس المعادلات القائمة، وبضمنها توزيع مراكز القوى، وما تتنبأ به استطلاعات الرأى العام التى تظهر تباعًا، وحتى تلك التى مصدرها جهات اليمين المتطرف، وتنشرها القناة 14 التليفزيونية الإسرائيلية، فإن الائتلاف الحاكم لا يضمن أغلبية مطلقة، كحاله اليوم، فى حال جرت انتخابات مبكرة، ولهذا فإن أى تفكيك للائتلاف ستكون بمثابة مغامرة لليمين الأشد تطرفًا.
وقد برهنت سنوات حكم نتنياهو على أن الأخير يبادر لحل الحكومة والكنيست، حينما يكون متأكدًا من أن نتيجة الانتخابات ستكون لصالح بقائه على الكرسى، وهذا ما هو ليس مضمونًا، حتى هذه المرحلة.
ورغم ذلك فإن سلسلة الأزمات هذه، والصدامات الداخلية فى حكومة نتنياهو، هى مؤشرات لجوانب من التناقضات فى هذا الائتلاف، حتى وإن كانت لا تقود إلى حل الحكومة.
برهوم جرايسى
المركز الفلسطينى للدراسات الإسرائيلية (مدار)