الهوس البشرى بالخلود - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:15 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الهوس البشرى بالخلود

نشر فى : الإثنين 27 سبتمبر 2021 - 7:05 م | آخر تحديث : الإثنين 27 سبتمبر 2021 - 7:05 م
«إن درء الموت هو أمر لا بد من العمل عليه، وإذا لم تعمل الكائنات الحية بجدية فى هذا المضمار، فسوف تندمج مع محيطها بنهاية المطاف، وينتهى وجودها باعتبارها كائنات مستقلة. وهذا ما يحدث حين تموت». بهذه الكلمات المثيرة لعالم الأحياء الشهير، ريتشارد دوكينز، اختتم رجل الأعمال الأغنى عالميا بثروة تناهز المائتى مليار دولار، جيف بيزوس، رسالته إلى المستثمرين فى مجموعة «أمازون». حيث كان يحضهم على الابداع والاجتهاد والمثابرة، غداة تنحيه عن قيادة أكبر كيان للتسوق عبر الإنترنت، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعى، وإنتاج الأفلام، على المستوى الكونى، والذى أسسه قبل 27 عاما، فيما تتخطى قيمته السوقية فى بورصة اليوم 1700 مليار دولار.
بموازاة التفرغ لمشاريعه الأخرى، كشركة «بلوأوريجين»، التى ستطلق رحلات سياحة فضائية، سيكون بيزوس على متن أولاها، ومتابعة العمل بصحيفة «واشنطن بوست»، التى يمتلكها، علاوة على تكريس مزيد من الوقت والمال لمحاربة التغير المناخى، ينتوى رجل الأعمال، ذو السابعة والخمسين ربيعا، ويتملكه الشغف بمناهضة الشيخوخة واقتفاء آثار الحياة الأبدية، تمويل مشروع علمى هائل، يستهدف إطالة العمر الافتراضى للإنسان، والذى يقدر حاليا بثمانين عاما.
فى سبيل ذلك، غدا بيزوس، أحد أكبر المستثمرين بشركة أسسها فى وقت سابق من العام الجارى فى وادى السيليكون الأمريكى، بمشاركة زمرة من كبار رجال الأعمال، كما تضم كوكبة من أنبغ علماء الجينات فى العالم، ضمن مجلس استشارى علمى، يترأسه الباحث اليابانى الشهير شينيا ياماناكا، الحائز على جائزة نوبل فى الطب عام 2012، مناصفة مع البريطانى جون جوردون، لاكتشافهما إمكانية تحويل الخلايا الناضجة إلى خلايا جذعية. وبينما تخطط شركة «Altos Labs» لفتح مختبر فى المملكة المتحدة، بتمويل من بيزوس، يبلغ 270 مليون دولار، ستعمل الشركة الواعدة على إطلاق أضخم منصة علمية للبحث فى أسرار الحياة الأبدية، ودراسة مكافحة الشيخوخة، عبر تكنولوجيا إعادة البرمجة البيولوجية، بغية تطوير تقنية تسمح بتجديد الخلايا البشرية، التى تعول طائفة من العلماء على دورها فى تمديد عمر الإنسان، وتمكينه من العيش إلى ما لا نهاية، دون أن تهزمه الشيخوخة أو يقهره الفناء.
لم يكن، بيزوس، أول من طرق أبواب السجال المعرفى، أو البحث العلمى لإدراك الخلود، إذ انشغل به الإنسان وتعلق بآمال بلوغه منذ الأزل. وفى حين تبحرت بعض المقاربات الفلسفية، والمعتقدات الدينية فى إبراز قدرة الإنسان على نيل الخلود الروحى، آثرت أجيال من العلماء تحرى الآليات العلمية الكفيلة بملامسة الخلود الجسدى، عبر زيادة متوسط عمر الإنسان إلى مئات، أو ربما آلاف السنين. وفى القرن السادس عشر، توقع العراف الفرنسى الأشهر، نوستراداموس، فى مؤلفه التنجيمى المعنون «النبوءات»، والصادر عام 1555، أن تتوصل البشرية بحلول العام 2015، إلى ما أسماه فى حينها «إكسير الحياة»، الذى سيمتد بمتوسط عمر الإنسان إلى مائتى حَول.
وفى الوقت الذى لم يكن يستوطن ذاكرته المعرفية سوى الأساطير، طفق الإنسان الغابر يوظف سردياتها المتنوعة بوصفها نموذجا تفسيريا لالتماس الحياة الأبدية، وفك طلاسم الخلود. وعلى مدى عصور الأساطير، ظل البشر مولعين بالأسباب الأسطورية لتحصيل البقاء السرمدى، كمثل «ماءالخلود»، أو «إكسير الحياة»، أو «حجر الفلاسفة»، أو«النبتة السحرية»، التى تتبارى جميعها فى شفاء الأسقام، ووهب الخلود. لكن بمضى الزمن، والتقاء الإنسانية بالمعتقدات الدينية، اصطدمت تلك السرديات الأسطورية بحقيقة صادمة مؤداها، أن الفناء قدر البشر، بينما الأزلية والسرمدية حكر خالص للذات الإلهية. وما إن انبرى المعنيون فى تَحسُس بديل يروى ظمأهم للبقاء الأبدى، حتى تراءت لهم فكرة الخلود المعنوى.
فبعدما جسدت «أسطورة أوتونابشتم»، فى الميثولوجيا العراقية القديمة، قصة الملك بطل الطوفان، الذى أدرك خلودا جسديا مشروطا بالانعزال التام عن العالمين، وإن طالته صبغة إلهية جزئية، أبرزت أسطورة الملك السومرى «أنميدر ــ أنا» ملك مدينة سبار، الخلود المجازى، عبر إنتاج المعرفة ونقلها إلى الآخرين وتوريثها للأجيال القادمة. حيث استُدعى الملك إلى حضرة الآلهة ليتعرف على أسرار الكهانة والعرافة، ولما كان الملك يدرك حتمية الفناء البشرى، فقد حرص على تعليم ابنه جميع الأسرار والعلوم التى استقاها من الآلهة، ضمانا لاستمراريتها وبقائها. أما الخلود، فى طابعه الغريزى البيولوجى، من خلال التكاثر لحفظ النسل وبقاء النوع، فقد عبرت عنه أسطورة الملك السومرى «أيتانا»، الذى ارتقى فى السماء على ظهر نسر، لملاقاة الآلهة، واستحصال نبات يحرره من عقمه، فتتحقق غايته وينجب ولدا، يورثه عرشه.
أما «أسطورة بلجاميش»، ملك الوركاء الرافدى، والشهيرة بـ«ملحمة كلكامش» الشعرية، ما بين عامى 1100 و1200 قبل الميلاد، فقد ابتدعت مقاربات فلسفية منطقية وأكثر واقعية للخلود، ممثلة فى العمل النافع الصالح، الذى يحيا من خلاله الإنسان بعد موته، ويرتفع معه ذكره على مر الأجيال. وبذلك تتلاقى «أسطورة كلكامش» للخلود الروحى، مع محاولات الإنسان المتواصلة والمضنية لتحويل الحياة، فى شكلها الفيزيائى، إلى أفق زمنى غير محدود، وإلم يكن سرمديا. وفى هذا السياق، يُعرِف الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط، خلود النفس «بأن يستمر الموجود العاقل وتبقى شخصيته فى هيئة لا نهائية». ويقصد كانط بالشخصية ههنا، الوحدة العقلية الواعية، التى تشكل حلقة الوصل بين الخلود وعمر الإنسان الدنيوى، بما يعنى بقاء الوعى العقلى، إلى أبد الآبدين، وفق ذات المستوى الذى كان عليه فى الحياة الدنيا. ما يشى بإمكانية نمو تلك الشخصية وذلك الوعى بعد موت الكائن البشرى.
جدير بالذكر، أن البشر لم يكونوا وحدهم المتهافتين على توسل الخلود. فلما كان الجن أسبق منهم فى الخلق، أبىَ الجنى، إبليس اللعين، إلا انتزاع قصب السبق فى التماس البقاء إلى يوم القيامة، حينما طلب من البارئ، تجلت حكمته، أن ينظره إلى يوم البعث، حتى يباشر مهمته الانتقامية والانتحارية فى آن، لإغواء بنى آدم وإبعادهم عن منهج الله، كما ورد فى الآية الرابعة عشرة من سورة الأعراف: «قال أنظرنى إلى يوم يبعثون». فاستجاب الحق، تقدست أسماؤه، لمطلبه، حسبما جاء فى الآية السابعة والثلاثين من سورة الحجر: «فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ». وفى تفسيره، يذهب الإمام الطبرى، إلى تقدير مالك الملك إمهال إبليس للعيش إلى اليوم الذى قدَر فيه الهلاك والفناء على مخلوقاته جميع، باستثناء الإله الواحد الحى الذى لا يفنى ولا يموت. مصداقا لقوله تبارك وتعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»، كما ورد فى الآية 185 من سورة آل عمران.
فمنذ خلق آدم عليه السلام، انشغل المخيال البشرى بسردية الخلود. وبدافع التطلع إلى بلوغه، استجاب أبوالبشر، وهو فى الجنة، لوساوس الشيطان، فطوعت له نفسه ارتكاب أول جرم إنسانى فى الملأ الأعلى بنسيان أوامر ربه والأكل من الشجرة التى حرمها عليه، طمعا فى مزية الخلود، التى زينها له عدوه المطرود من رحمة المنعم، ليحمله على عصيان مولاه. وقد صور لنا الحق، تجلت حكمته، محاولة إبليس إغواء آدم وزوجه للخروج على أوامر الله، فى الآية العشرين من سورة الأعراف، بقوله تعالى: «فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين».
ومن بعد آدم، طفقت ذريته تنشد الخلود، إما رغبا فى الحياة الدنيا وتعلقا بزخرفها الزائل والمنقوص، أو رهبا من الدار الآخرة، بما تنطوى عليه من أهوال تنتظر المنحرفين عن الطريق القويم. ففى وصفه لنهم المنافقين والمشركين لطول العمر، يقول تعالى فى الآية 96 من سورة البقرة: «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون». وقد فسرها بن عباس، ثم بن جبير لاحقا بأن اليهود المعاندين، شأنهم فى ذلك شأن المنافقين والمشركين، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، طمعا فى شهواتها وملذاتها، وهربا من الحساب وسوء العاقبة بعد الموت. لكن هيهات؛ فمهما طال عليهم العمر سيموتون، لا محالة، ثم ليُبعثن للحساب، واستحقاق عاقبة مكرهم وسوء أعمالهم.
تقطع الأديان السماوية الإبراهيمية الثلاثة بأن البشر فانون، وأنهم عاجزون عن إدراك الخلود، الذى قدره عليهم مولاهم بعد الموتة الأولى، والانتقال إلى الحياة الأخروية. فإما نعيم مقيم فى روضات الجنات، بفضل الله، أو عذاب أبدى فى سواء الجحيم، عياذا برحمته، حسبما ورد فى غير موضع قرآنى كريم. ورغم ذلك، يبقى التساؤل الفلسفى الأشد إثارة يداعب مخيلة أناسى كثير: ماذا لو أطال العلى القدير أعمارهم فى حياتهم الدنيا، أو أنظرهم إلى يوم معلوم؟!. فبرغم سورياليته، يفجر إشكالية معرفية، تستدعى بحثا وتأملا عميقين لتفكيكها وسبر أغوارها. ولو أن مياها غزيرة انهمرت، من روافد شتى، فى هذا المعترك الفكرى الملغوم. ففى سفره الصادر عام 1971، والمعنون «مشكلة الحياة»، أدلى المفكر والفيلسوف، الدكتور زكريا إبراهيم، بدلوه فى هذا المضمار، بالقول: «لو كانت حياتنا مستمرة لا نعرف لها نهاية، لكانت جهدا عبثيا، لا معنى له ولا غاية، فنحن نموت لأنه لا بد لنا من أن نحيا مجددا».
التعليقات