نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتب شادى محسن، تناول فيه عدة ملاحظات إزاء قيام إسرائيل بنشر وثائق سرية تخص حرب أكتوبر فى هذا التوقيت بعد مرور خمسين عاما... نعرض من المقال ما يلى.
أشارت الصحف الإسرائيلية فى أواخر شهر يونيو 2023 عن تدشين مركزين بحثيين إسرائيليين لدراسة حرب أكتوبر 1973، وسيتم إطلاقهما رسميا فى 6 أكتوبر 2023 بمناسبة مرور خمسين عاما على حرب أكتوبر.
كان المركز الأول هو موقع أرشيف وزارة الدفاع الإسرائيلية الذى يحمل ما يزيد عن ستة آلاف وثيقة بين صور، وملفات، ومقاطع مصورة، وخرائط، تغطى مراحل ما قبل الحرب، وأثناء اندلاع الحرب، وما بعد الحرب خاصّة المتعلقة بالمراجعة الداخلية للجنة «أجرانات» الإسرائيلية.
أما المركز الثانى، فهو مركز «دراسات حرب يوم الغفران»، وهو لمجموعة من الضباط الإسرائيليين المتقاعدين، الذين يهدفون إلى نقل وقائع الحرب، ودروسها المستفادة إلى الشباب والأطفال الإسرائيليين.
• • •
تشير متابعة الأوضاع فى إسرائيل حاليا إلى عدة ملاحظات تمثل الاعتبارات الإسرائيلية التى تفسر قيام إسرائيل بنشر وثائق حرب أكتوبر على النحو التالى:
1ــ طبيعة الحرب وسياق الحاضر: ترى الحكومة الإسرائيلية الحالية أنّ ملابسات الاستراتيجية الإيرانية ضدها تتشابه فى حد كبير مع ظروف حرب أكتوبر فى 1973، على الجبهتين المصرية فى الجنوب، والجبهة السورية فى الشمال، كما قرأت التقديرات الإسرائيلية حينها أنه من غير المستبعد أن تتدخل المملكة الأردنية من جهة الشرق لمساعدة الجيشين المصرى والسورى. يختلف الأمر بين الماضى فى أكتوبر 1973 والحاضر مع السياسة الإيرانية، هى الضربة الفجائية التى ألحقت بإسرائيل الكثير من الخسائر، خاصّة على المستوى التعبوى، والتحركات العسكرية لصد الهجوم.
لذلك تحرص الحكومة الإسرائيلية الحالية على استخلاص كامل الدروس المستفادة من الحرب، على المستوى البشرى، والسياسى، والاستخباراتى، والعسكرى العملياتى، والاقتصادى، وكذلك المجتمعى.
2ــ مرور نصف قرن هو وقت كافٍ لاستخلاص الدرس: ترى المراكز البحثية الإسرائيلية أنّ المراجعات الداخلية التى عُقدت على مدار السنوات التى تلت الحرب منذ عام 1974 حتى الثمانينيات، لم تكن كافية لاستخلاص الدروس المستفادة من الحرب؛ ويرجع ذلك إلى تداخل الاعتبارات السياسية والأيديولوجية أثناء التحقيقات، الذى حال دون الوصول إلى الموضوعية فى التحقيق وحساب المتورطين؛ وذلك بهدف رفع مسئولية الهزيمة على فصيل سياسى معين، وهو تيار اليسار الذى أدرك تنامى التيار اليمينى المتطرف، ورغبته فى استغلال الهزيمة فى حرب أكتوبر للصعود إلى الحكم.
لذلك، ترى إسرائيل فى الوقت الحالى أنّ مرور نصف قرن على ذكرى الهزيمة فى حرب أكتوبر، ستنجح فى لفظ الاعتبارات السياسية والأيديولوجية، سواء داخل الأروقة السياسية، أو العسكرية أيضا، وستحقق الوصول إلى الموضوعية فى استخلاص الدروس المستفادة على جميع الأصعدة: السياسية، والاستخباراتية، والعسكرية داخل هيئة الأركان العامة.
ولكن، لا يعنى مرور خمسين عاما كاملة على ذكرى الحرب أنه لن يكون هناك أى اعتبارات سياسية، أو أيديولوجية بشكل مطلق قد تتداخل مع المراجعة الداخلية لحيثيات وتفاصيل حرب أكتوبر، إذ إنه من المحتمل ألا تزال تلك الاعتبارات حاضرة أيضا، ولو بنسب قليلة. لا سيما وأن بدأ تيار اليسار يستغل الاحتجاجات المستمرة فى الشارع الإسرائيلى.
3ــ صراع الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية: لا يمكن فصل الحدث المهم، وهو الكشف عن الوثائق الإسرائيلية السرية عن سياق سياسى استخباراتى لا يقل أهمية، وهو الصراع المكتوم بين جهازى الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية حول مسئولية الهزيمة فى حرب أكتوبر. إذ كلا الجهازين يلقيان التهمة ومسئولية الهزيمة على الآخر.
يعود ذلك الصراع والتحييد المتبادل لتقديرات الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "آمان"، حسب الوثائق الإسرائيلية، وحسب خطة الخداع الاستراتيجى المصرية؛ إلى ما يلى:
نجحت مصر فى زرع عميل مصرى، كان اسمه الحركى «جالوت» فى جهاز آمان. نقل «جالوت» تفاصيل عن زمن وطبيعة الحرب من الجانب المصرى إلى «آمان»، فيما كان أشرف مروان فى الموساد يلعب دورا معاكسا لدور «جالوت»، إذ كان ينقل «مروان» إلى الموساد تفاصيل تختلف كلية عن زمن وطبيعة الحرب؛ مما قاد إلى إحداث فجوة عميقة بين «المفهوم» فى الموساد، و«المفهوم» فى آمان.
يُعد «المفهوم» مصطلحا استخباراتيا يقوم على تحليل المؤشرات التى تقود إلى صياغة محددات واضحة يقوم عليها تقدير الموقف النهائى، ووجد الموساد أنّ محددات المفهوم الخاص بها لتقدير الموقف مع مصر هو أنّ هناك حربا وشيكةً ستدور رحاها فى قبل نهاية عام 1973. فيما كانت محددات المفهوم الخاص بشعبة آمان لتقدير الموقف النهائى أنّ سوريا لن تدخل حربا بدون مصر، وأنّ مصر لن تدخل حربا دون الوصول إلى مرحلة التوازن الاستراتيجى مع إسرائيل، الذى سيتطلب مدة زمنية قد تصل لعامين إلى ثلاثة أعوام إضافية، أى خَلُصَ التقدير إلى أنه لا حرب وشيكة فى عام 1973.
لذلك، يستغل الموساد مرور خمسين عاما على ذكرى هزيمة إسرائيل فى حرب أكتوبر؛ لكشف وثائقه التى تؤكد أنه كان صاحب التقدير الأدق لمجريات الأحداث قبل وأثناء الحرب، بفضل عميله الخاص «أشرف مروان»؛ لتأكيد موقفه السليم أمام شعبة آمان التابعة لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلى، الذى تسببت تقديراته فى إلحاق الهزيمة بإسرائيل.
علاوة على أنّ الموساد يطمح لأن يكون الجهاز المسيطر على المجتمع الاستخباراتى الإسرائيلى مستقبلا، إذ ما زالت الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية تراوح مكانها فيما يتعلق بإنشاء مجمع استخباراتى موحد منذ عام 2004، خاصّة بعد أن نجحت الولايات المتحدة بعد أحداث الحادى من سبتمبر فى تشكيل ذلك المجتمع.
4ــ معركة التماسك المجتمعى فى إسرائيل: لا ينفصل حدث الكشف عن الوثائق السرية الإسرائيلية عن سياق مجتمعى آخر، وهو إحداث حالة من التماسك المجتمعى بين الإسرائيليين. لا سيما وأنّ صعود الحكومة الإسرائيلية الحالية أحدث أثرا سلبيا ملحوظا تمثل فى خلق حالة من الاستقطاب بين الإسرائيليين تقوم على أساس الدين، والهوية الثقافية، وتقوم أيضا على الأساس الجغرافى أى أنّ هناك فرقا بين المواطن الإسرائيلى الذى يقطن الأراضى الفلسطينية المحتلة فى الضفة الغربية، (أى المستوطن) الذى يحصل على أولوية سياسية واقتصادية وأمنية أيضا، وبين الإسرائيلى الذى يقطن مدن الداخل الإسرائيلى الذى يعيش حالة من الركود التضخمى والإهمال الأمنى النسبى، كما يتم وصم احتجاجه على مشروع الإصلاح القضائى بالخيانة والانتماء إلى إيران.
أدرك الجيش الإسرائيلى أنّ الظواهر السياسية والمجتمعية السلبية حاليا فى إسرائيل تقوّض من مكانته، ومن مصطلح «جيش الشعب» الذى يستند على السباق المجتمعى الإيجابى للانضمام إلى الجيش، وتحمل أعباء التجنيد.
وعليه، بدأ الجيش الإسرائيلى بالتحديد فى إكساب حدث الكشف عن الوثائق طابعا سياسيا ــ مجتمعيا من أجل جذب الرأى والمزاج العام لصالح روايته الخاصة، إذ لا يرغب الجيش أن تنتقل مسئولية أمن إسرائيل إلى كيانات ومنظمات يمينية متطرفة تقوم على أمن المستوطن الإسرائيلى؛ لذلك عمل على «تبرير» هزيمته لعوامل سياسية بحتة لا تتعلق بالعمل العسكرى، وأنّ استخلاص الدروس بكامل الموضوعية سيكون له أثرٌ إيجابىٌ على حالة الجهوزية العسكرية، لأى حرب أخرى محتملة. رأى الجيش الإسرائيلى أنّ نشر الوثائق أمام الرأى العام الإسرائيلى سيشجع الإسرائيليين للدخول فى مناقشات بناءً على كيفية عمل الجيش الإسرائيلى، والاحتكاك ببطولات «غير مكتملة التفاصيل، وغير واضحة فى الوثائق، إذ تم مسح بعض التفصيلات المهمة حول تكتيكات المعارك الإسرائيلية التى تدعى فيها الانتصار على الجيشين المصرى والسورى». لذلك يمكن وصف حدث كشف الوثائق بأنه عمل دعائى، والهدف منه هو رفع الحالة المعنوية للإسرائيليين، وربط هذه الحالة بالمؤسسات الأمنية والعسكرية.
جدير بالإشارة إلى أنّ الجيش الإسرائيلى يخشى من تحقق سيناريو انتقال مسئولية أمن إسرائيل إلى تنظيمات شبه عسكرية ــ مسلحة محسوبة على اليمين المتطرف، وهو كيان «الحرس الوطنى»، يقوم فى أساسه على تسليح المتطوعين المدنيين المستوطنين فى الضفة الغربية لحفظ أمن المستوطنات التى تعرضت لأعمال مقاومة عنيفة من جانب الفلسطينيين فى السنوات الأخيرة، ولم يحقق الجيش الإسرائيلى أى تقدم ملحوظ فى وقف هذه العمليات. لذلك من المخطط له فى أجندة حكومة نتنياهو الحالية أن يتم إنشاء الحرس الوطنى، وأن يكون تابعا لوزير الأمن العام المتطرف: إيتمار بن جفير».
النص الأصلى