الهيمنة المترددة: ألمانيا وأوروبا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:06 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الهيمنة المترددة: ألمانيا وأوروبا

نشر فى : الخميس 27 نوفمبر 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 27 نوفمبر 2014 - 8:00 ص

أسمع من أصدقاء تخصصوا فى الشأن الأوروبى، وأقرأ لخبراء أوروبيين، أن أوروبا تموج حاليا بمشاهد مستقبلية من صنع أكاديميين وسياسيين، أكثرها لا يدفع إلى التفاؤل ولكن جميعها يرفع ألمانيا إلى مكانة القيادة ويسبغ عليها الفضل والأمل فى استقرار القارة وتجاوزها أزماتها الراهنة.

لست مندهشا من هذا الانبهار بألمانيا من جانب خبراء أعرف عنهم الموضوعية والتزامهم التحليل المتزن. أنا نفسى، ولست خبيرا متخصصا فى الشئون الأوروبية، أكاد أجزم من موقعى كمراقب بأن السلوك السياسى الألمانى فى الشهور الأخيرة هو الذى منع تدهور الأزمة الأوكرانية نحو أعماق سحيقة من التوتر والعنف، ونحو تهديد جاد للأمن والسلم الدوليين. لم تساير ألمانيا أنصار التشدد من الأمريكيين والبريطانيين وفى الوقت نفسه لم تكشف عن ضعف، يظن كثيرون أنه ناتج عن واقع اعتماد أوروبا على صادرات الغاز الروسية، وواقع اعتماد جانب كبير من الاقتصاد الألمانى على التجارة مع روسيا والاستثمارات المتبادلة.

من ناحية أخرى يبدو أن مواقف السيدة ميركيل فى الآونة الأخيرة، سواء فى تعاملها مع مشكلات الاندماج الأوروبى والعلاقات بين الدول أعضاء الاتحاد الأوروبى وتعاملها الشخصى والدبلوماسى مع الرئيس فلاديمير بوتين، كانت كاشفة عن حقيقة أن ألمانيا تعيد التفكير فى جدوى الاستمرار فى سياسة الامتناع عن تحمل مسئوليات كبار فى النظام الدولى، وسياسات الابتعاد قدر الامكان عن المشاركة فى جهود فرض السلم والأمن بقوة السلاح.

لقد نجحت السياسة الخارجية الألمانية خلال الشهور الأخيرة، فى إقناع موسكو بأن برلين قادرة إن شاءت على أن تجعل البراجماتية أساسا ومنهاجا للعلاقات بين دول أوروبا الشرقية، وأكثرها دول قلقة ومتوترة وخائفة وغير واثقة، وبين روسيا. نجاحها فى هذا المسعى لن يحقق المرجو منه إذا لم تخفف القيادة الروسية من دعاياتها وتوجهاتها المغلفة بشعارات قومية. إذ إنه كلما ازداد وهج التشدد القومى وتعددت طموحات روسيا التوسعية كلما نشطت من جديد النزعات القومية فى دول أوروبا الشرقية. ولاشك أن العاقلين فى روسيا وخارج روسيا وبالذات فى ألمانيا أدرى بمعنى هذا التصعيد المتبادل فى التوجهات القومية وخطورته على سلام القارة واستقرارها. من جهتى تابعت باهتمام ردود فعل ألمانيا على التغيرات السياسية الحادثة فى بولندا، وبخاصة تولى رئاسة الحكومة ووزارات الخارجية فى التعديل الأخير أشخاص معروف عنهم الميل الشديد للواقعية والبراجماتية ورغبتهم فى إنهاء عهد من الحكم فى بولندا تحكمت فيه الشوفينية البولندية مهددة العلاقات مع روسيا. وقد يكون هذا التغيير السياسى فى بولندا ناتجا عن تأثير غير مباشر أوحت به برلين. أقول هذا وفى ذهنى تصريح لمسئول بولندى جديد جاء فيه أن «روسيا أهم لبولندا من أوكرانيا». بمعنى آخر أراد أن يقول إنه لا يجوز تعريض سلامة بولندا للخطر من أجل قضية أوروبية لا تمس بشكل مباشر مصالح بولندا فى ضمان استقرار حدودها الإقليمية. أظن أن السياسة الألمانية تجاه القضية الأوكرانية وتجاه مجمل العلاقات مع روسيا حاولت أن توحى لدول أوروبا الشرقية بتبنى هذا التوجه «البراجماتى» حرصا على أمن القارة.

ألمانيا، هى الآن، اللاعب الأساسى فى أوروبا. والفضل فى هذا يعود إلى عناصر كثيرة ليس أقلها شأنا جودة أداء النخبة الألمانية الحاكمة، مقابل سوء أداء النخبة الحاكمة فى كل من بريطانيا وفرنسا، الشريكان الأهم لألمانيا حتى وقت قريب فى قيادة أوروبا. نجد بريطانيا حاليا تفكر فى إبطاء عملية الاندماج الأوروبى بل وتهدد بالخروج من الاتحاد، الأمر الذى إن تحقق أو لم يتحقق فقد أعطى ألمانيا بمجرد إعلانه الحق فى أن تقرر ما شاء لها أن تقرر فى شأن مستقبل أوروبا منفردة. أما فرنسا فحالها الاقتصادى والسياسى يسابق الزمن للالتحاق بحال إيطاليا وإسبانيا وربما اليونان، ففى كل هذه الدول اتسعت الفجوة بين الجماهير والنخب السياسية إلى حد دفع إلى سطح الحياة السياسية بتيارات جديدة تدعو إلى «اسقاط النظام»، هناك الجبهة الوطنية فى فرنسا، وحزب سيريزا فى اليونان وحركة النجوم الخمسة فى إيطاليا، وحزب «بإمكاننا» Podemos فى إسبانيا.

سبب آخر لاستحقاق ألمانيا مكانة القيادة الأوروبية، هو نجاحها فى تأكيد استقلال سياستها الخارجية عن الضغوط والمواقف الأمريكية، ولكن بدون الإساءة إلى مكانة أمريكا كقائد للعالم الغربى. لم تخضع ألمانيا «الميركيلية» لإرادة أمريكا خلال مرحلة الأزمة الاقتصادية. استمرت تفرض التقشف فى ألمانيا كما فى دول أخرى فى القارة رغم رفض إدارة أوباما الشديد لهذه السياسة. كذلك لم تساير التصعيد الذى سعت إليه الولايات المتحدة فى المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا، وفضلت التعامل مع روسيا على خلفية خبرة الدولتين التاريخية وخوفهما المشترك من ارتكاب أخطاء دفعتا ثمنها غاليا.

ومن الأسباب أيضا، أن ألمانيا لم تحاول فى أى يوم منذ توحدها أن تكون لها قواعد أو تحالفات سياسية خارج القارة الأوروبية. لم تشتت طموحاتها وآمالها ومصادر قوتها. عرفت النخبة الحاكمة الألمانية أن مستقبل ألمانيا مرتبط بمستقبل أوروبا. أوروبا لها الأولوية، بل هى كل شىء كمصدر من مصادر قوة ألمانيا، ولذلك فهى لا تسعى لنفوذ طاغٍ فى الشرق الأوسط أو فى أفريقيا أو حتى فى آسيا وأمريكا اللاتينية.

زار أحد كبار المحللين السياسيين الأمريكيين أوروبا وآسيا خلال الشهرين الماضيين، وبين ملاحظاته العديدة الجيدة توقفت أمام عبارة يقول فيها إنه اكتشف أن الآسيويين والأوروبيين لا يتطلعون إلى أمريكا كالعهد بهم قبل سنوات. الآسيويون الآن يتطلعون إلى الصين بينما يتطلع الأوروبيون إلى ألمانيا، ولعلها إحدى علامات عصر ما بعد العولمة حيث عادت الدول تفضل «القريب» وإن كان أقل قوة وثراء على «البعيد» وإن كان أعظم قوة وأوفر ثراء. عادت أيضا «البراجماتية» غير المفرطة تهيمن على أساليب صنع السياسة واتخاذ القرار بعد أن كانت الأيديولوجية، قومية كانت أم دينية أم امبريالية، هى المهيمنة. اعتراضى على إطلاق هذا الرأى نابع من قراءتى للسياسات الخارجية لدول أخرى كثيرة منها الصين واليابان وروسيا، ففيها جميعا لا تزال «القومية» تلعب دورا لا يزال أساسيا.

عقل ألمانيا وقلبها فى أوروبا، ولكنها غير غافلة عن آسيا وما يمكن أن تفعله الصين فيها وبها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي