ربما لا تعى الذاكرة عاما يضاهى عامنا 2018 ــ الذى يطوى آخر صفحاته بعد ثلاثة أيام ــ فى قطعه، أو إغلاقه كثيرا من طرق الحكم والسياسة فى العديد والعديد من الدول الكبرى، والدول المتوسطة المؤثرة فى العالم أو فى إقليمها، وليس ذلك إلا أحد المؤشرات المنظورة بقوة على أزمة شاملة ومتشابكة، هى بذاتها نهاية للطريق الذى سار فيه النظام العالمى والعلاقات الدولية، بعد انتهاء الحرب الباردة، وسايرته مختلف الدول والمجتمعات بدرجة أو أخرى.
إذ بدأنا بالقوة الأكبر فى العالم، أى الولايات المتحدة الأمريكية، فليس حصول الحزب الديمقراطى المعارض على أغلبية مقاعد مجلس النواب هو وحده المؤشر على نهاية هيمنة الشعبوية القومية الانعزالية على السياسة الأمريكية داخليا وخارجيا، ولكن يضاف إليها وبالقدر نفسه من الأهمية الفوضى غير المسبوقة فى أداء أو تكوين إدارة الرئيس دونالد ترامب، فهذه أول مرة فى دولة مؤسسات ديمقراطية يتخذ فيها الرئيس قرارا بحجم سحب قوات عسكرية من مواقعها القتالية، ليس فقط بالرغم من وزير دفاعه، ولكن أيضا من وراء ظهره، ليفاجأ الوزير بالقرار مثله مثل قراء الصحف والتغريدات الرئاسية، مما اضطره للاستقالة المسببة المعلنة، فيرد عليه الرئيس بقبولها قبل موعد سريانها استخفافا وانتقاما، وكما نعرف فقد سبقت هذه الاستقالة مغادرة رئيس هيئة موظفى البيت الأبيض، ووزير الخارجية، وعدد كبير آخر من أركان الفريق الرئاسى.
ثم يتوازى مع ذلك اقتراب التحقيقات القضائية، والبرلمانية فى التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية، والمخالفات المالية لحملة ترامب، والعلاقات التجارية بين الرئيس وأسرته وبين حكام الخليج من رأس ترامب نفسه.
وجاءت قضية مقتل خاشقجى ــ التى فتحت الملف المالى بين سيد البيت الأبيض وسادة الخليج ــ لتضع نهاية طريق لنمط العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة والسعودية، تحت وطأة الضغوط الضارية للرأى العام وللكونجرس.
وبالطبع فهذه هى أيضا نهاية طريق لأسلوب الحكم الحالى فى الرياض، وربما تكون نهاية الظاهرة كلها، بامتدادتها الإقليمية، من فلسطين إلى لبنان، فإيران، فاليمن، فقطر، نزولا إلى مشروع «نيوم»، وصعودا إلى الناتو العربى ــ الإسرائيلى.
وغير بعيد من ذلك كله اضطرار رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو للدعوة لانتخابات عامة مبكرة، رغم أنه عندما ستجرى الانتخابات فى إبريل المقبل، لن يكون متبقيا على الموعد الدستورى الأصلى سوى ثمانية أشهر فقط، وإذا كانت الذريعة المعلنة لهذا التبكير هى الخلاف بين أحزاب الائتلاف الحاكم حول مشروع قانون تجنيد اليهود الأرثوذكس، فإن هناك سببين أكثر أهمية، الأول رغبة نتنياهو فى قطع الطريق على توجيه اتهام رسمى إليه من جانب النائب العام فى قضايا الفساد المالى التى حققت معه الشرطة فيها، وأوصت بموجب هذا التحقيق بتوجيه الاتهام القضائى إليه، وذلك بالحصول على تفويض انتخابى قوى يربك حسابات النائب العام، ويضعه فى حرج المواجهة مع الأغلبية الشعبية، أما السبب الثانى فهو الملف الفلسطينى السياسى والملف الأمنى العسكرى فى مواجهة حزب الله وحركة حماس، وهو ما كان أدى إلى استقالة وزير الدفاع السابق، وأنذر باستقالات أخرى، وقصارى القول فى هذه النقطة أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، وأية حكومة أخرى تالية، لا تستطيع فرض السلام الذى تريده على الفلسطينين، وعلى كل الجيران، رغم التفوق العسكرى الإسرائيلى الواضح، وفى الوقت نفسه فهى ترفض القبول بالحد الأدنى من شروط السلام العادل، وكان من أسباب رهان نتنياهو على إمكان فرض سلام القوة على الفلسطينيين (على الأقل) التفويض الممنوح له على بياض من الرئيس الأمريكى، وتحالفاته المعلن منها وغير المعلن مع الدول العربية،بقيادة بعض دول الخليج، على أن تحين بعد ذلك ساعة حزب الله وإيران.
وإذن فإن الطريق الذى سد أمام ترامب، قد أغلق أيضا أمام ولى العهد السعودى، وأمام رئيس الوزراء الإسرائيلى، وبقية الشركاء فى الإقليم بكل تأكيد.
وإذا انتقلنا من المثلث الأمريكى الإسرائيلى السعودى فى منطقتنا إلى سائر أنحاء العالم، فقد توالت أيضا نهايات الطرق، ففى الاتحاد الأوروبى المصدوم بخروج بريطانيا، جاءت الصدمات تترى باعلان مستشارة ألمانيا القوية السيدة انجيلا ميركيل تقاعدها من الحكومة والحزب فى نهاية الدورة البرلمانية الحالية (فى العام المقبل)، وقضت السترات الصفراء على بريق ظاهرة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، إن لم تقض عليه نهائيا، ما لم يفتح طريقا جديدا لفرنسا، ولكل أوروبا، أما فى بريطانيا نفسها، فالقول الراجح هو أن نجاة تريزا ماى من اقتراع حجب الثقة الحزبية عنها كان جزءا من صفقة اتفق فيها على تمرير اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبى فى مجلس العموم، مقابل عدم ترشحها لرئاسة الحكومة فى الانتخابات المقبلة، والاكتفاء بهذه النهاية نصف السعيدة لمسيرتها السياسية.
قبل أن ننتقل إلى الطرف الآخر من العالم، أى إلى الصين على وجه التحديد، يجدر التساؤل مع القارئ، وما هى معالم الطرق الجديدة المحتمل العبور إليها فى الولايات المتحدة وأوروبا فوق هذه النهايات التى وضعها عام 2018؟ ولنترك المنطقة العربية على هامش الحديث، بما أن الكثير من طرقها يغلق ويفتح من خارجها.
حتى الآن لا توجد إجابات واضحة، وسيتعين على الجميع انتظار ما سيحدث فى الولايات المتحدة متعلقا بمصير ترامب، وفى ألمانيا بعد تغيير قيادتها، وفى فرنسا كنتائج للحوار الوطنى الشامل الذى دعا إليه الرئيس ماكرون.
السيناريو المتفائل (وليس المؤكد) يتوقع استقالة الرئيس الأمريكى الحالى أو عزله، ومن ثم تزول أكبر عقبة أمام استئناف عملية العولمة، بمفاهيم وتطبيقات أكثر نضجا، وأكثر اهتماما بالشرائح الأضعف اقتصاديا واجتماعيا فى الدول المعينة (الدول الصناعية المتقدمة)، أى دمج الأسواق سلميا ولمنفعة الجميع، بعيدا عن سطوة النزعة العسكرية الأمنية.. وفقا للتعبير الأثير لعميد مدرسة فرانكفورت للفكر الاجتماعى يورجن هابرماس، وفى هذه الحالة فقد يكتشف أصحاب القرار، والناخبون سواء بسواء مزايا أفكار مناهضى العولمة من منطلق العدالة الاجتماعية، على نحو ما مثلته حركة آتاك فى السنوات الأولى من هذا القرن، وخاصة فكرة الضرائب «الدولية» على حركة رءوس الأموال والاستثمارات العابرة للحدود، وكذلك على الشركات عابرة القومية، باعتبار أن ذلك لن يؤدى فقط إلى توزيع أكثر عدلا للدخول والخدمات عبر العالم بتمويل الدول (كل حسب إسهامه) من هذه الضرائب، ولكنه سيضمن منافسة أكثر عدالة بين الاقتصاديات الوطنية فى جذب الاستثمارات ورءوس الأموال، التى تفضل بطبيعة الأمور النزوح إلى الأسواق الأقل كلفة من الناحية الضريبية.
ننتقل الآن إلى الصين، بما أنها الطرف غير الغربى الأقوى فى العلاقات الاقتصادية الدولية، وبما أنها المستهدف الأول من حروب دونالد ترامب التجارية، وقد كان عام 2018 فى هذا العملاق الآسيوى أيضا نهاية طريق أو عدة طرق، فقد وضعت الصين فى هذا العام الذى يلملم أوراقه نهاية لأهم إصلاح سياسى عرفته، وهو تحديد مدة بقاء رئيس الجمهورية فى منصبه بمدتين، وذلك بعد ما يقرب من نصف قرن من تطبيق هذا الإصلاح، وقيل فى تبرير هذا «الانقلاب» الدستورى أنه ضرورى لمواجهة الحروب التجارية والسياسية التى أنذر بها، وشرع فى تطبيقها اليمين الأمريكى لوقف التقدم الصينى، كذلك وضعت القيادة فى بكين نهاية لنهج الصعود الهادئ، الذى أوصى به باعث النهضة الحالية الراحل دينج شياو بينج، والذى كان يقتضى من بين ما يقتضى تجنب النزاعات، وتحاشى استفزاز الولايات المتحدة على وجه الخصوص، والتفاخر الدائم بعدم وجود ماض امبريالى للامبراطورية الصينية، إذ بدلا من ذلك خاضت بكين الحرب التجارية مع الأمريكين بكل شراسة، وتوسعت تجاريا واستثماريا فى إفريقيا وآسيا، وأطلقت مبادرة الحزام والطريق باستثمارات فى أكثر من أربعين دولة، وحصلت على قواعد بحرية تجارية فى سرى لانكا وجيبوتى، وكينيا، وإسرائيل (نفسها) واليونان، وأقامت قاعدة عسكرية فى جيبوتى، وواصلت إنتاج حاملات طائرات وغيرها من القطع البحرية الحربية الكبيرة تحت مسمى أسطول المياه الزرقاء، بما تطلب منها إقامة جزر صناعية كقواعد فى بحر الصين، وأنحاء اخرى من المحيط الهندى، رغم معارضة وتخوف كل جيرانها.
بالطبع لايمكن اتهام الصين بالاعتداء على أحد وهى تفعل ذلك، بل الصحيح أنها تطرح مبادرتها فى إطار ما تسميه بالتشارك والمنفعة المتبادلة، غير أن آخرين يتوجسون منها فى المستقبل، كما رأينا فى الحالة الأمريكية، وكما نعلم عن الهند واليابان أيضا.
لذلك قد يبدو السيناريو المتفائل (ولكن غير المؤكد) الذى سبقت الإشارة إليه هو المدخل الأكثر ملائمة للجميع، فى عالم لاتنقصه خطايا وحماقات الصغار، حتى يتردى فى مآس، أشد هولا يصنعها الكبار.