لا يكاد يحين موعد الاحتفال السنوى باليوم العالمى للغة العربية، بحلول الثامن عشر من ديسمبر، ذلك الذى يوافق إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرارها رقم 3190 د، لسنة 1973، باعتماد لغة الضاد ضمن اللغات الأممية الرسمية، كالفرنسية، والإنجليزية، والروسية، والإسبانية، والصينية، دعما للتعدد اللغوى، وترسيخا للتنوع الثقافى، حتى يحتدم جدل، قديم جديد، بشأن تعرض عديد لغات، من بينها العربية، لمخاطر الانقراض.
فيما يعد نزيفا للتراث الحضارى الإنسانى، يمكن لشبح الانقراض أن يلاحق لغات شتى، ضمن سياق منعطفات تاريخية حرجة، تتحول على إثرها اللغة الأم، إلى «لغة ميتة»، أو«بائدة». فقد تكابد انعدام التحدث بها، جراء هلاك متحدثيها الأصليين، على خلفية الحروب، أوالجوائح الوبائية الفتاكة، أوالكوارث الطبيعية المدمرة. وربما يضطر أهلوها إلى التحدث بلغة مغايرة، أسوة بما جرى إبان عصور الاستعمار، الذى كان يمارس الهيمنة الثقافية على الدول الخاضعة له، ومن ثم يجبرهم على التحدث بلغته، وتجاهل لغاتهم الأصلية، مثلما حدث فى العالم الجديد، وأستراليا، وشمال إفريقيا، كما دول الاتحاد السوفياتى السابق. وههنا، يؤكد عالم الاجتماع الأسترالى، بيتر أوستن، فى مؤلفه الجديد المعنون: «ألف لغة حية فى خطر وضائقة»، أن تهديد التنوع اللغوى البشرى، لم يتوارَ بأفول الموجات الاستعمارية الكلاسيكية، وإنما يتواصل مع بروز الاستعمار الجديد، واستمرار الهيمنة الثقافية والإعلامية للمستعمر السابق.
وفى بعض حالات، قد تتعرض بعض اللغات للازدراء، أوالامتزاج، أوالاندماج القسرى فى لغات أخرى، تستمد هيمنتها من وطأة العولمة الثقافية الطاغية. وتؤكد الدراسات المعنية، أن البشر كانوا فى عام 8000 ق .م، يتحدثون عشرين ألف لغة ولهجة، لم يتبق منها اليوم سوى 6000 فقط. وتوقعت منظمة «اليونسكو»،فى تقريرها الصادر عام 2012، انقراض نصفها، مما يهدد التنوع اللغوى والنسيج الهوياتى الإنسانى. فليست اللغات مجرد سلوك تعبيرى يثرى التنوع الثقافى البشرى، بقدر ما تشكل دعامة لهوية الجماعات الناطقة بها، ودرعا لشخصيتها الوطنية وسمتها الحضارى.
خلال مؤتمر عقدته الأمم المتحدة فى فبراير 2007، لاستشراف مآلات التنوع اللغوى، حذر أكثر من 500 اختصاصى عربى وأجنبى فى اللسانيات وعلوم الاجتماع والطب النفسى، من إمكانية تعرض اللغة العربية لمخاطر الانقراض. وأرجعوا مخاوفهم إلى طغيان اللغات الأجنبية واللهجات المحلية المحكية. حيث تجنح السياسات الثقافية للدول العربية، لتفضيل تلك الأخيرة فى مجالات الحياة المختلفة، لاسيما الإعلام والتعليم، تزامنا مع تردى المستوى اللغوى لدى غالبية المشتغلين بتلك المجالات. فى حين يتبارى أثرياء القوم، متفاخرين، فى التعلق بتلابيب التعليم الأجنبى، والتكلف فى استخدام اللغات الأعجمية، والتفنن فى التفوه بعبارات وألفاظ دخيلة، غير مبالين بما تخلفه هكذا ممارسات، من تأثير سلبى على إلمام أبنائهم بلغتهم الأم، وارتباطهم بروافدها الثقافية والهوياتية. بموازاة ذلك، من شأن تنامى أعداد اللاجئين والمهاجرين والنازحين العرب فى بلاد العجم، من وطأة استفحال الأزمات والصراعات، أن يفضى إلى مضاعفة محنة اللغة العربية. حيث تضطر أجيالهم التالية إلى تعلم واستخدام لغات البلدان التى يستوطنونها، على حساب لغتهم الأصلية.
بقدر ما تنطوى عليه تلك الطروحات من رؤى تشاؤمية مفزعة، لجهة تعرض اللغة العربية لإكراهات تاريخية متنوعة، سواء من قبل متحدثيها، أو مناهضيها، أو بجريرة الثورة المعرفية، إلا أنها لا تخلو، فى الوقت ذاته، من مبالغة مضللة. حيث تمتلك لغة الضاد من مكامن القوة ومقومات الثراء، ما يخولها الصمود والبقاء. فما برحت اللغة العربية ركيزة للتنوع الثقافى الإنسانى. وإلى جانب كونها لغة رسمية فى 27 دولة، فهى سادس اللغات المستخدمة فى الأمم المتحدة، وتحتل المرتبة الرابعة من حيث الانتشار عالميا، حيث يتكلمها ما يربو على 422 مليون نسمة، يشكلون 6.6% من سكان المعمورة، ويستخدمها أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، يتوزعون بين المنطقة العربية، ودول مجاورة، كتركيا، وتشاد، ومالى، والسنغال، وإرتيريا. وتحظى العربية بمكانة رفيعة لدى المسلمين، كونها لغة القرآن الكريم، ولا تتم جل العبادات الإسلامية إلا بإتقان شىء من عباراتها. وهى أيضا لغة شعائرية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية فى العالم العربى، وبها سُطرت أهم المتون الدينية والإبداعات الفكرية اليهودية إبان العصور الوسطى.
لما كان التواصل هو غاية اللغة وعلتها، فقد ظلت العربية أداة رئيسة لهندسة واحدة من أكبر الشبكات التفاعلية فى تاريخ البشر. وبينما يرتهن مستوى التفاعل الحضارى والفكرى بمدى قدرة اللغة على إنجاحه، وما تقدمه من إمكانات للتكيف مع الأنماط الثقافية المختلفة، لعبت العربية دور حلقة الوصل المحورية فى الترجمة، والنقل، والتأليف، والابتكار. فلم تبرع فى استيعاب ثقافة الآخر، وهضم المنتج الحضارى القادم إليها من خارجها فحسب، وإنما كانت وعاء علم وأدب وفن. وظلت، لزمن طويل، صوتا للعلوم التى نهل منها الغرب، ليصنع نهضته، من خلال حركة الترجمة العكسية، التى نشطت منذ القرن الثانى عشر. حيث شكلت حافزا لإنتاج العلوم ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا إبان عصر النهضة. كما أنعشت الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير، من سواحل الهند إلى القرن الإفريقى. وسادت العربية لقرون طويلة من تاريخها، بوصفها لغة السياسة والعلم والأدب، فأثرت ــ على نحو مباشر وغير مباشر ــ فى ثلة من اللغات الأخرى، مثل :التركية، والفارسية، والكردية، والأوردية، والماليزية، والإندونيسية، والألبانية،علاوة على عدد من اللغات الإفريقية،على شاكلة: الهاوسا، والسواحيلية، وبعض اللغات الأوروبية، خاصة تلك البحر متوسطية منها، كالإسبانية، والبرتغالية، والمالطية، والصقلية. ولعل هذا ما شجع الكاتب والعالم المصرى الراحل، الدكتورمصطفى محمود، على اعتبار، لغة الضاد، أصل اللغات كافة.
وانطلاقا من دورها الحيوى فى الحفاظ على التنوع الثقافى البشرى، وإثراء التراث الإنسانى العالمى. وبفضل ما تفيض به من سحر البيان ورشاقة البنيان، نالت اللغة العربية احتراما وتقديرا بالغين من قبل غير المتحدثين بها، كما أسرت قلوب الكثيرين منهم. إذ شهد لها مفكرون أعجميون كُثُر بعذوبة تعبيراتها، وتميز موسيقاها، وغنى مفرداتها، وجمال فنونها. وأشادوا بعراقتها التاريخية، كواحدة من أقدم اللغات وأوسعها انتشارا، وأعمقها إرثا حضاريا، وأغزرها رصيدا فكريا وإنسانيا. ففى تعبير صادق عن حب جارف دفعه لتعلمها وتعليمها، يقول المستشرق الإيطالى الشهير، أجنتسيو جويدى: «اللغة العربية آية للتعبير عن الأفكار، فلا مثيل لحروفها فى اللغات الأخرى. أما مفرداتها فتميزت بالمعنى والاتساع والتعدد، ودقة تعبيرها من حيث الدلالة والإيجاز والمعانى». وبذلك، تتلاقى شهادة، جويدى، وإشادته، مع مدحة شعرية لأمير الشعراء أحمد شوقى، فى العربية، يقول فيها: «إن الذى ملأ اللغاتِ محاسنا .. جعل الجمال وسره فى الضاد». وقد تبنت احتفالية هذا العام باليوم العالمى للعربية، شعار «اللغة العربية والتواصل الحضارى»، للتأكيد مجددا على الدور الحيوى، الذى تضطلع به لغة الضاد، لمد جسور التواصل بين الأنام، فى كنف الثقافة والعلم والأدب والفنون. فضلا عن تسسليط الضوء على إسهامها التاريخى فى استحداث المعارف وتناقلها، وتعزيزالحوار، وإرساء دعائم السلام.
شأنها شأن العملة الوطنية للدولة، تزداد قوة اللغة وتتسيد الأنحاء، مع زيادة الطلب عليها، إثر تصاعد أهميتها، استنادا إلى ما تنتجه من إبداع وابتكار. وعلى هذا الأساس، تكمن المزية النسبية الأبدية للغة العربية فى كونها وعاء كتاب الله المكنون فى لوحه المحفوظ، وحكمته المسطورة فى السنة النبوية المطهرة. ولقد تجلى الربط الإلهى بين اللغة العربية وكتاب الله الكريم، فى غير موضع قرآنى. إذ قال تعالى فى الآية الثانية من سورة يوسف: «إِنَا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ». وفى الآية 195من سورة الشعراء:«بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِينٍ». وفى الآية 28 من سورة الزمر: «قُرْآنا عَرَبِيا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَعَلَهُمْ يَتَقُونَ». وفى الآية السابعة من سورة الشورى: «وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا». وفى الآية الثالثة من سورة فصلت: «كتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنا عَرَبِيا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ». وفى مطلع سورة الزخرف: «إِنَا جَعَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ». وتستمد اللغة العربية خلودها من ارتباطها الوثيق بالدين الإسلامى، كوعاء بيانى للقرآن، ومكون تعبيرى للعبادات، التى شملها المولى، تبارك وتعالى، مجتمعة، برعايته العظمى وحفظه الجميل، إلى أن يرث سبحانه الأرض ومن عليها.
من غير الحكمة، والحال هكذا، أن يهوى بنا قلقنا المشروع على مصير لغتنا الجميلة، جراء ما أحاط بها من تحديات، فى غيابات التشكيك بشموخها الذى يناطح النوازل. فلقد تخطى عدد المتحدثين بالعربية اليوم، مثيلاته فى أى وقت مضى، وهو آخذ فى التنامى. وستبقى لغة الضاد أبية، ما بقى الإسلام عزيزا بكتاب الله وسنة نبيه. وما دام متحدثوها ومريدوها، يقدرونها حق قدرها، ويرعونها بغزير حبهم، مدركين لعظمتها، واعين لمكنوناتها، حافظين لتراثها ورسالتها. وما ظل القائمون عليها مقتنعين بأهمية تطويرها وتأهيلها للانفتاح البناء على مستجدات الثورة المعرفية، حتى تواصل دورها التاريخى، كمنهل تنويرى، ومنبع إشعاع حضارى، للإنسانية قاطبة.