إنه الاقتصاد يا غبى! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 3:06 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إنه الاقتصاد يا غبى!

نشر فى : الجمعة 28 فبراير 2014 - 2:25 م | آخر تحديث : الجمعة 28 فبراير 2014 - 2:25 م

بمناسبة الإعلان عن استقالة الحكومة والبدء فى تشكيل الحكومة الجديدة، تثار مرة أخرى، وليست أخيرة بالطبع، قضية «الملف الاقتصادى» كأحد الملفات الأساسية الضاغطة على صانع القرار المصرى فى الآونة الراهنة. وقد يكون من المناسب أن نتوقف، فى هذا المقال، عند طريقة تعامل الحكومة المستقيلة مع الملف الاقتصادى بتعقيداته المختلفة، وخاصة فيما يتصل بما سمى بالحزمة التنشيطية الأولى والثانية.

ولكن قبل ذلك، قد نسمح لأنفسنا بأن نردد عبارة: إنه الاقتصاد يا غبى! وهى قوْلة ذُكرت أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية لـ«بيل كلينتون» فى مواجهة جورج بوش الأب فى أواخر 1990، وتستحق أن نستعيدها فى مواجهة كل من لا يدرك أهمية العامل الاقتصادى فى سياق الموقف المصرى الراهن، والذى كان قد وصل الاقتصاد معه إلى «نقطة التوقف» تقريبا قبيل حدث الثلاثين من يونيو 2013.

وكانت شبه (هِبة من السماء) تلك المصادر التمويلية القادمة من بعض دول الخليج العربية بعد 30 يونيو 2013، بالغة إجماليّا مقدرا بنحو 12 مليار دولار، من تعهدات كلية بقرابة 17 مليارا. ولكن حال التعامل مع هذه المصادر التمويلية كحال رجل مفلس أو شبه مفلس تراكمت عليه الديون وتعاظمت على عاتقه الاحتياجات العائلية الملحة، فما إن هبطت عليه ثروة مفاجئة من السماء حتى أخذ يتصرف فيها بسرعة سريعة، لمقابلة الديون المستحقة، وسداد العجز فى موازنته الضيقة، وترميم أوجه النقص الخطيرة فى مسكنه وطريقة انتقاله من ــ وإلى ــ مكان العمل، و«التوسعة» على بعض أبنائه لمواجهة احتياجاتهم الطارئة، وخاصة فى وجه «غول الأسعار» وشبح الجوع والعطش.

•••

هكذا كان حال السلطات المصرية ممثلة فى الحكومة «المستقيلة»، وكان بها فريق اقتصادى محترف فى مجالات المال والنقد و«الاقتصاد الاجتماعى»، فقد أخذت هذه السلطات تتصرف فى الأموال التى (هبطت من السماء)، بادئة بصرف جزء من الفائض المدخر بالعملة الدولارية والمودع فى حساب خاص بالبنك المركزى منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى وقيمته 8,78 مليار دولار. وقد قام البنك المركزى بتحويل هذا المبلغ لحساب وزارة المالية بغرض تمويل ما سمته الحكومة «الحزمة التنشيطية الأولى» فى إطار ما يسمى «الخطة العاجلة لتنشيط الاقتصاد والتأسيس للعدالة الاجتماعية خلال المرحلة الانتقالية»، وذلك من خلال فتح اعتماد إضافى للموازنة العامة للدولة للعام المالى 2013/2014 بمبلغ 29.7 مليار جنيه، بمقتضى قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 105 لسنة 2013 والمنشور فى الجريدة الرسمية بتاريخ 23 أكتوبر 2013، والذى ينص على «قيام البنك المركزى بشراء رصيد المبالغ الواردة من بعض الدول العربية ولذ يبلغ حوالى 8,78 مليار دولار أمريكى فى نهاية أغسطس 2013، على أن تتم إضافة المعادل بالجنيه المصرى ومقداره حوالى 60,758 مليار جنيه مصرى لحساب وزارة المالية». وكان من المقرر أن تتلو هذه الحزمة حزمة أخرى تنفذ خلال النصف الأول من 2014، من خلال فتح اعتماد إضافى للموازنة العامة للعام المالى 2013/2014 بقيمة 33,9 مليار جنيه.

•••

وقد تمثلت أوجه الإنفاق للاعتماد الإضافى المخصص للحزمة الأولى فى ثمانية برامج يغلب عليها الطابع «الجارى» و«العاجل»، وتمثل 35% من إجمالى اعتمادات البرنامج الاستثمارى للخطة، وتشمل: برنامج تطوير شبكة النقل، وبرنامج استصلاح للأراضى، والبرنامج القومى للإسكان الاجتماعى، وبرنامج تطوير شبكات مياه الشرب والصرف الصحى والغاز الطبيعى، وبرنامج دعم شبكات الكهرباء ورصف الطرق وتحسين البيئة، برنامج دعم وتطوير الصناعة بما فيها مساندة المصانع المتعثرة بقيمة 500 مليون جنيه، وبرنامج دعم المقاولين والموردين، وأخيرا برنامج دعم وتطوير الرعاية الصحية.

ووفقا لما نشر، فقد حددت «الحكومة المستقيلة» أوجه الإنفاق للحزمة التنشيطية الثانية، عبر تخصيص 21,7 مليار جنيه للإنفاق الاستثمارى بما فيها مشروع تنمية محور قناة السويس، و12 مليارا للإنفاق الجارى بمفهومه الواسع. ولم يكن من الواضح تماما إلى أى حد يركز البرنامج الاستثمارى على توسيع القدرات الإنتاجية فى القطاعات السلعية والخدمية ذات الأولوية، وخاصة الزراعة الغذائية والصناعات التحويلية المتطورة تكنولوجيا، وخدمات البحث العلمى والتطوير التجريبى.

ومن عجب أن قد تم تحديد أوجه الإنفاق بدون إدارة نقاش جدى بين دوائر الاقتصاديين سواء منهم الأكاديميون والممارسون، وبدون إعلان على الملأ وللجميع، لطرق التصرف فى ذلك المبلغ الكبير (أكثر من 60 مليار جنيه)، فتم الأمر كله بقدر من التكتم وبدون تحقق شرط العلانية الواجبة والشفافية اللازمة أمام «الرأى العام» وقادة الرأى. وقد اكتفت الجهات المعنيّة حينئذ، ردّا على هذا النقد المحتمل، بذكر أن البيانات ذات الصلة متاحة على موقع وزارة التخطيط على الشبكة العنكبوتية، متجاهلة أهمية الإتاحة واسعة النطاق والمناقشة قبل الإقرار لبدائل التصرف وأوجه الإنفاق من مدخرات لن تعوض فى الأجل المنظور.

وهكذا، لم يحظ الموضوع بما هو جدير به من اهتمام على المستويين الرسمى والعلمى، وانتهى الأمر دون طرح الأولويات الاقتصادية بشكل وافٍ أمام (كل من يهمه الأمر).

والآن، وقد بدأ تشكيل «حكومة جديدة»، فإن الأمر يستحق عناية أكبر، واهتماما أعرض وأعمق، لما للاقتصاد من أهمية بالغة لتجاوز المأزق المصرى الراهن وفتح الطريق أمام الأفق المستقبلى الرحيب فى الإطار العربى العام.

•••

ولما كان من المهم، فى اللحظة الراهنة، توجيه الأنظار إلى أهمية معالجة مشكلات الأجل القصير والمتوسط فى إطار المرحلة الانتقالية القائمة، من المنظور التنموى، فإننا نحيل إلى عدد من المسائل الرئيسية، فى مقدمتها على سبيل المثال: مباشرة العمل فى تطبيق سياسة «إحلال الواردات» فى القطاعين الصناعى والزراعى، سعيا إلى توسيع وتعميق القدرات الإنتاجية والخيارات التكنولوجية، من جهة أولى، وتضييق فجوة الميزان التجارى، من جهة أخرى. وتشير بعض الدراسات التحليلية إلى وجود إمكانات كبيرة لتطبيق السياسة المذكورة فى القطاع الصناعى، من خلال التركيز على القطاعات الفرعية الآتية: المنتجات الكيماوية والأدوية، التعميق الصناعى وتصنيع الآلات والمعدات لكل من الأجهزة الكهربائية ووسائل النقل، والألياف النسيجية، والمنتجات القائمة على المعادن الأساسية، وفى مقدمتها الحديد.

وليست مثل هذه الخطوات الإجرائية الممكنة سوى مقدمات، ينبغى أن تتلوها خطوات أخرى على طريق استعادة النهج التنموى ــ التخطيطى لتحقيق نقلة كبرى للاقتصاد المصرى بالمعايير العالمية باتجاه بناء قاعدة إنتاجية كبيرة ومرنة ومتنوعة على أساس من العدل الاجتماعى، وبمنهج الديمقراطية الشعبية الحقيقية. وهذه المهمة تقع على رأس جدول الأعمال المنتظر لـ«رئيس الجمهورية المقبل» وسائر السلطات الدستورية فى النظام السياسى المقبل.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات