شهد الفكر الاقتصادى الدولى، والعربى، تحولا معتبرا خلال أربعين سنة أو يزيد، ولكن فى اتجاهات متباينة، ولعلها متنافرة. من جهة أولى، اغتنت «نظرية التنمية» اغتناء جما فى مطلع السبعينيات من رافديْن: أولهما يتمثل فى «الاتجاه الهيكلى» الموجه نحو إعطاء الأولوية فى السياسات الاقتصادية الهادفة إلى إحداث تحول جذرى فى هيكل الأنشطة المولدة للناتج المحلى الإجمالى، وخاصة بالتركيز على «التصنيع» المعمق تكنولوجيا على المستوى الوطنى المستقل نسبيا ضمْن الإطار التكاملى للاعتماد على الذات قوميا وإقليميا. يرتبط بذلك، توجيه الناتج لتلبية احتياجات السوق المحلية المتنوعة، بما فى ذلك العمل على إحلال المنتجات المحلية محل الواردات، دون افتئات على الفئات الاجتماعية ذات النصيب الأقل من الدخل. ثم هناك الرافد الثانى، المتمثل فى الاتجاه المستوعب للفكر الاشتراكى، وفى فرع مميز من مدرسة «مواجهة التبعية».
من جهة ثانية، تم التلاقح بين الاتجاه السابق، برافديْه المذكوريْن، وبين اتجاه قائم على النزعات الإنمائية المتضمنة فى الدعوة إلى إقامة «نظام اقتصادى عالمى جديد» خلال عقد السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، فى إطار ما كان يسمى «تنمية أخرى». وتفرع هذا الاتجاه إلى نزعات متنوعة داعية إلى توجيه التنمية إلى «إشباع الاحتياجات الأساسية للناس» وقدر من «الاعتماد على الذات»، ونحو ذلك.
أما من الجهة الثالثة، فقد ترعرع اتجاه طاغٍ متولد من السعى إلى تجدد الفكر الاقتصادى الرأسمالى خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من رافديْن أيضا: رافد داعٍ إلى تبنى نسخة محدثة من «الكينزية» أو «الكينزية الجديدة»، عبر مفهوم «دولة الرفاهة» سواء فى غرب وشمال أوروبا أو فى الولايات المتحدة الأمريكية، مع لون من التعاطف مع ضرب من ضروب ما يمكن أن يُدعى «الليبرالية الطيبة ــ أو السمحة» وخاصة بمزج سياسات النمو مع سياسات إعادة التوزيع. ورافد آخر، يسعى فى اندثار الكينزية و«ما بعد الكينزية» ليقيم مقامها «ليبرالية جديدة» أخذت مسوحا كثيرة منذ مطلع الثمانينيات لتتربع على عرش الفكر والسياسة الاقتصادية فى الغرب كله تقريبا، تحت لواءات: الخصخصة، تخفيض الإنفاق الاجتماعى، أولوية استهداف التضخم وتقليص عجز الموازنات الحكومية، فيما يسمى اتجاه «النقديين الجدد»: (ميلتون فريدمان وتلامذته). ونذكر كذلك «الريجانية» (نسبة لرونالد ريجان ــ الرئيس الأمريكى الأسبق) الداعية إلى أولوية «اقتصاديات العرض» التى تؤول إلى تشجيع عنصر الملكية الخاصة (الكبيرة)، كبديل لاقتصاديات الطلب ذات التوجه المجتمعى بطابعه الكينزى.
وقد انداح تيار الليبرالية الجديدة و«النقدية ــ الجديدة» والريجانية إلى المستوى الدولى لمعالجة أزمة التمويل من أجل سد عجز الموازين المالية لدى لفيف واسع من البلدان النامية فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث أوْكلت إلى «صندوق النقد الدولى» مهمة الإشراف على استعادة التوازنات الأسمية للبلدان المذكورة ذات العبء المرتفع من الاستدانة الخارجية، عبر قيادة الجهد الدولى الرامى إلى إقراضها فتدخل فى «فخ الاستدانة» (كالمستجير من الرمضاء بالنارِ). وقد صُممت من أجل ذلك برامج كثيرة فى بلدان نامية عديدة، يشرف عليها «صندوق النقد الدولى» من أجل «التثبيت» أو «التكييف الهيكلى» وما يسمى بالإصلاحات الاقتصادية، قائمة على طابع تقشفى أساسى لحكومات «الحد الأدنى من الوظائف الاجتماعية». وارتبطت بذلك دعوة حثيثة، من مكامن فكرية عدة، إلى خفض حدة الفقر، ببرامج موجهة مباشرة لهذا الغرض، بالتركيز على بعض الفئات الأشد فقرا، ضمن دائرة الغرض الأوسع المسمى بالحماية الاجتماعية. وكان يقاس مدى التقدم فى تنفيذ ما يسمى على هذا النحو ببرامج (الإصلاح الاقتصادى) بمعياريْن: أولهما استعادة التوازن المالى وخاصة توازن الميزانية العامة، بخفض الإنفاق الحكومى، لاسيما ذلك الذاهب إلى ما يسمى «الدعم»، مع السماح ــ رغم ذلك ــ بتوجيه نصيب مرتفع نسبيا من اعتمادات الموازنة العامة إلى خدمة الديون، المحلية والأجنبية (الفوائد والأقساط). وثانيهما تحقيق معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادى الكلى، ممثلا فى زيادة معدل النمو للناتج المحلى الإجمالى على أساس سنوى عادة، وذلك دون كبير اهتمام بالمصادر التى يتولد منها نمو الناتج: وهل هو من الأنشطة الإنتاجية، وخاصة «الصناعات التحويلية»، أم من الأنشطة سريعة العائد المالى كخدمات التجارة والعقارات وبيع وشراء أجهزة ومعدات الترفيه والاتصال الاجتماعى مثلا؟.
بناء على ما سبق، أعطيت أهمية كبرى لارتفاع معدلات النمو فى حد ذاتها، دون نظر لآثاره الانتشارية على المحيط الاجتماعى، أى دونما اهتمام قوى بالأبعاد التوزيعية للدخول والثروات، كما أعطيت أهمية كبرى أيضا لمعدل انخفاض العجز فى الموازنات العامة، دونما اهتمام موازٍ بأولوية الإنفاق الاجتماعى، الموجه توزيعيا وتنمويا على الوجه الصحيح.
ومن باب الإنصاف الواجب أن نذكر، أنه خلال العقديْن الأخيرين بالذات، ومن بين الاتجاهات السابقة، كانت الغلبة آخر الأمر للاتجاه «الليبرالى الجديد»، تقشفى الطابع، الموصى به من الدوائر المتنفذة فى النظام الاقتصادى الدولى ومنظماته العتيدة وفى مقدمتها «مؤسسات بريتون وودز» المنشأة بالاتفاقات المعقودة فى تلك المدينة الأمريكية الصغيرة عام 1944(البنك الدولى وصندوق النقد الدولي).
انطلاقا من ذلك، تمحورت السياسات الاقتصادية الكلية فى دول العالم، وخاصة البلدان النامية المدينة، حول تقشفية النفقات العامة، وتحقيق معدلات نمو بالمعيار الاسمى، بينما تركت البنى الاقتصادية الحقيقية، والإنتاجية والتصنيعية، دون تطوير محق، كما تُركت الطبقات الاجتماعية العاملة والمتوسطة تئن من تحت أزيز تدفقات الأموال السائلة الدوارة، هائمة على وجهها، داخليا وخارجيا. وتزداد معاناة هذه الطبقات من جراء ما هو أكثر، من نواتج الفساد و«انعدام الشفافية والمحاسبة والمساءلة». والأمر فى الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. فهو يعود إلى الطبيعة البنيوية للنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فى البلدان النامية عموما، بما فيها البلدان العربية، والتى تم بناؤها على مهل خلال عشرات السنين وأكثر. وقد تُرِكت الطبقات والشرائح الثرية والأعلى ثراء، والدول الكبرى الثرية والأكثر ثراء، لتسرح وتمرح، وتفعل ما يشاء لها الهوى والمصلحة أن تفعل، دون أدنى اكتراث بالمجتمعات الغفيرة، وبالبيئة الكونية المهددة بالدمار الممنهج.
لذلك كله، وجدنا انتفاضات جماعية تثور فى كل بقعة من الأرض تقريبا، وخاصة الأرض العربية التى شهدت واحدة من أعلى معدلات إحداث الظلم والتبعية والدمار البيئى واستنفاد الموارد المحول ريعها لقلة فى الداخل، ولدول بعينها فى الخارج.
وفى الختام، يكفى أن نقول إن «الليبرالية الجديدة» ــ وتلك النسخة الرديئة منها بالذات، السائدة فى الآونة الراهنة ــ قد وصلت إلى منتهى أمرها عالميا وعربيا، مما قد ينذر بنهايات (كارثية)، ليس للنظام الدولى وللنظم الإقليمية فحسب، ولكن للبنى العميقة للأوطان، وللوطن البشرى الأقدم: الكوكب الأرضى بالذات. فهل تنهض النخبات المتنورة من سبات، وتهب للدفاع، ومن قبله هجومٌ على مكامن صنع دوائر الضياع الكوكبى من تدمير للموارد، وتصحر للمناطق الغابية والخضراء، وتلويث للمحيط الحيوى واليابسة ولعالم البحار والمحيطات..؟
وهل يمكن أن تمتد اليقظة العالمية المستنيرة لإيقاف مسلسل «حروب بلا نهاية» تقودها دول بذاتها محتكرة للشطر الأعظم من الثروة العالمية (ومعها كيانات عنصرية ذات نفوذ إقليمى يتعاظم فى غفلة من الزمن، كما فى منطقتنا الآن)، وهى تنشر، من ثم، العنف والممارسات العنفية على اختلاف وتنوع تلويناتها الدينية والإثنية وغيرها، بأعلام منافية لحق الشعوب فى التنمية ولحقها فى تقرير المصير القومى..؟
وعلى الضد من كل ذلك، يبزغ نجم من بعيد، يشع بضوئه الساطع حاملا نداء «السلام القائم على العدل»، فهل من مجيب..؟».